الفساد الثقافي...الدكتورعبدالسلام فزازي
أن يعم الفساد كل القطاعات كاد الأمر يصبح واقعا لم نعد نناقشه إلا عندما
ينتابنا إحساس بالغبن ونحن نقارن أنفسنا ببقية العالم الذي يحترم نفسه، وبالتالي
مؤسساته، هذا العالم الذي شب على الطوق على عمق الديمقراطية وليس الذل ديموقراطية
كما قال مفكرنا المهدي المنجرة... اجل، عمق الديمقراطية التي أصبحنا يتغنى بها في
كتاباتنا عندما نمتطي المنصات المنبرية نحمل جثثنا المتهرئة في غياب جوانياتها
ومصداقيتنا، ناهيك عن المنابر التي لم يعد يصدقها احد لأنها مجرد انعكاس بافلوفي
لعمق إنسان العالم الثالث... نعلم من جيدا يحضر للقاءات الثقافية والفكرية هنا
وهناك وعبر القارات الخمس، ومن يحضرها، ومن يجب أن يحضرها ومن لا يجب أن يفكر فيها
أصلا، كما نعلم من هم دهاقنتها الذين كانوا بالأمس القريب يعبدون الأصنام إلى أن
صاروا أنفسهم أصناما يريدوننا قربانا لهم، ودونهم البحر فليشربوه سما ناقعا.. حين
نتتلمذ على أيادي أساتذة لنا صاروا مع مرور الزمن يتجاوزون مكانة آبائنا، ونجدهم
يلهثون وراء الجوائز وهم في سباق غرائبي مع طلبتهم، هنا لا يسعنا إلا أن نطلق
الثقافة طلاقا بائنا بينونة كبرى...أجل، نريد وبلا شك لأساتذتنا جوائز عالمية
لنردد منتشين: أساتذتنا فعلا رسخوا تجاربهم محليا وعربيا ودوليا، وما أجمل أن
نقتفي آثارهم ونقتدي بهم... لكن استغرب كيف يمكن لي أو اسمح لنفسي يوما أن أكون
مقيما لإعمالهم أنا الذي كنت بالأمس اعتمر في محرابهم اقتات من معينهم، متمنيا أن
أصير يوما ظلا لهم، وفيضا من عطاءاتهم... أكيد، انقلبت العملية القياسية بني أمي،
حيث تعلمنا أن القياس يتم تبعا للقاعدة الفقهية على هذا المنوال: نقيس الفرع على
الأصل، وليس العكس، إلى أن وصلنا إلى أن الأصل بدا يرتعد وينتظر من الفرع أن يقيم
أعمال الأصول، وحتما ما اعتقد أن هناك من سيعترض على مسار من علمونا، وإلا فإننا
يجب أن نساق فرادى وجماعات إلى مارستانات...كما قلت في عدة لقاءات ثقافية وطنية
وعربية ودولية: أن العجب لم يعد عربيا، ولم يكن يوما عربيا، كما أن المستحيل ما
عاد يحمل هوية عربية.. فمن سيصدق أن قامة مثل قامة شاعرنا محمد بنطلحة، الشاعر
الكبير أقولها وأتحمل مسؤوليتي النقدية الأكاديمية، أجل شاعرنا سيسحب ترشيحه من
جائزة المغرب بديوانه الرائع « اخسر السماء واربح الأرض»، وهو يعرف لماذا فعل لأنه
ادري بواقع مؤسساتنا الثقافية التي لم تعد تغري المثقف الحقيقي الذي لا يريد أن
يدخل سوق النخاسة، والحال أن القصيدة افتضحت منذ زمان في مثل هذه الاحتفالات
الكرنفالية.. ونفس الشاعر الكبير سبق أن رفض جائزة الاركانة في الوقت التي يلهث
وراءها المتشاعرون وبأي ثمن... وما دامت المناسبة شرط كما يقال، والتي تستوجب منا
وقفة احترام وإجلال لمبدعنا واستأذنا احمد بوزفور الذي لقن ذات المؤسسات درسا في
ماهية الرفض العميقة التي من المفروض أن يتولد عنها ما يسمى ب« الموقف».. ترى
لماذا أصبحنا نعيش تراجعا غير مسبوق في المجال الثقافي الذي أصبحت تتحكم فيه
المزاجية، والاخوانيات، والوصولية، والانبطاح إلى درجة لا يمكن أن يصدقها عاقل؟
ولماذا أصبحت الثقافة منهلا للفساد والريع إلى أن عم الفساد في مشارق الأرض
ومغاربها..؟ وهنا لن أقف إطلاقا عند من تزوجوا زواجا كاثوليكيا استضافات معرض
الكتاب وبطرق أصبحت بدورها لا تناقش في زمن استأسد فيها من كانوا بالأمس مجرد
كومبارس إلى أن صاروا بقدرة قادر ينفخون ريشهم مثل الطواويس، واعتذر لهذا الطائر
لأنه على الأقل لا يعاني من أي إعاقة عقلية ولا جسدية.. فتحية لشاعرنا الكبير لأنه
أكبر من هذه الجائزة لأنك تعتبر مفخرة لنا وقدوة ومدرسة وموقفا؛ وتحية لاستأذنا
وأستاذ الأجيال، والمدرسة القصصية احمد بوزفور على مواقفه الثابتة التي علمتنا أن
الكبير يبقى كبيرا والأقزام تبقى أقزاما حتى ولو استعرت لهم طول جبال البرانس،
وتبا لمن كانوا بالأمس أحذية متهرئة وصاروا يقررون في مصير من كانوا يرتعدون منهم
إلى حد التبول.. فما أعدلك يا حجاج بن يوسف الثقفي أمام هذه الأقزام التي خرجت من
تلابيبنا إلى أن صارت تتحكم في الرقاب والعباد ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف..
فيا ارض ابلعي هؤلاء قبل مائك فبهم ما عادت الثقافة عاشقة ولا معشوقة...
أكيد لا يختلف اثنان على أننا في أمس الحاجة إلى
ثقافة ومثقف يسوقان للمتلقي المغربي أولا، والمغاربي ثانيا، والعربي ثالثا، بل حتى
الكوني نوعا من الوعي الذي افتقدناه مع الأسف الشديد لما اختلط علينا الحابل
بالنابل مع ثلة من الإخوة الذين نصبوا أنفسهم سدنة على الثقافة، واختاروا أن
يجعلوا منها عشيرة يحج ألينا كل سنة وفي كل مناسبة نفس الوجوه، وبطرق شتى بعيدا عن
الانفتاح على الرؤى والأفكار التي ربما يمتلكها الغير وما أكثرهم، والحال أن هذا
الوطن معطاء في شتى الميادين، ومن خلال أسماء واعدة أريد لها أن تبقى حيث هي
اعتقادا منهم أنهم سيربكون حساباتهم الضيقة والتي تحمل ما تحمل من خبايا تفصح عن
نفسها، ولم تعد معروفة لدى الأجيال التي تدرك على أن هناك من يعمل على إقبار مفهوم
الحرية في سبيل ربط وسائل وسبل التعبيري عبر مثقفين يحملون حقا في كتاباتهم حياة الإنسان
بقضاياها وهمومها.. ولهذا علينا اليوم أن نعترف جهرا أن هناك لوبيات وصلت إلى
مراكز القرار واستهوتها المصالح الفردية، والمكاسب المادية، ولهذا ننصح بالابتعاد
عن الانزلاق إلى أسلوب الاخوانيات وووو... وهذا ما يجعل ثقافتنا تصطدم مع هؤلاء إلى
ثقافة السوق والمعارض التي لا تستقطب إلا نفس الأسماء التي ملتها فضاءات ذات
المعارض وذات اللقاءات.. ليصير المثقف الواعد الذي حظ له في ولوج هذا العالم
الموبوء عبارة عن مبدعين يشبهون غيوما عابرة في سماء فصل ملون يختلط فيه الإبداع أو
بالأحرى الثقافة برغبات السوق، والرفاه، والجمهور الذي مل المعارض ونفس الوجوه
فعانق الغياب إلى أن يحضر من يعيد للثقافة بريقها والقها والمدافعين عنها غيرة،
وهذا بالطبع يتطلب نضجا سيكولوجيا، وديمقراطية مواطنة، وحيادا مطلقا يطلق
الانبطاحية، والتزلف، ومحاربة الأنا البغيضة والجديرة بالبغض.. ورب متسائل يتساءل:
كيف يمكن التخلص من هذا الداء الذي أصاب جسم وروح الثقافة؟ أكيد يجب مواجهة الرؤى
الثقافوية المصاحبة لفكرة التمركز أولا، لأنها هيمنت إلى درجة جعلتنا وكأننا في
مواجهة بين المركزي والهامشي.. هناك هيمنة ثابتة تتسع سيطرة وسيادة رغم أن الذين
انيطت بهم مهمة المسؤولية على الثقافة لا ينتمون أصلا إلى المركز لكن سرعان ما
روضهم واقع الحال فدجنوا واستجابوا بافلوفيا لساداتهم .. ولهذا نتمنى وبكل تجرد
وتعال بلورة مشروع ثقافي يستهدف الوعي الحقيقي ابتداء من الذات، وصولا إلى الذات
الجماعية، خارج أشكال الامتثال التي عشناها وها هي لم تبرح مكانها على الإطلاق..
وفي هذا النطاق، أرى أن ادوارد سعيد، كم كان محقا حين قال: إن ما يرسم الخط الفاصل
والمهم بين مفهوم جماليات التخلف ومفهوم الجماليات المحلية القومية، هو شكل
التعامل مع مكونات الثقافة وأيضا أشكال توظيفها..
ولعلنا نلمس وبجلاء أن الفعل الثقافي رغم ما يعيشه من
تشرذم وسلبيات، يساهم فيها بعض المثقفين أنفسهم من المفروض أن يعاد فيه النظر بغية
التصالح مع العالم بعيدا عن المثبطات التي ابتلي به الحقل الثقافي، والتي أصبحنا
نرى أن هذه السلبيات كانت في الحقيقة سببا في تطور بديل لما هو رسمي حيث برزت إلى
الوجود جمعيات جعلت المؤسسات الموبوءة تتوارى شيئا فشيئا وربما أنها بصدد العيش في
غرغرتها الخيرة لأنها زاغت عن الفعل الثقافي الذي طالما حلمت به أجيال متعاقبة..
وهكذا، أصبحنا بفعل ظهور هذه الجمعيات نعيش نوعا من التغيير وإعادة تأسيس صرح
ثقافي يمتد بل يتوق نحو العالمية، على اعتبار أن الثقافة أولا وأخيرا تربية منفتحة
على الحقول الأدبية بتشكلاتها المتنوعة، والحال أنها تتصل جذريا بماهية الحياة..
وما دام الأمر كذلك، فإنه يتطلب من المثقف أن يعانق قيم الحداثة في توهجها كبديل
لما هو سائد ومحنط لا يستجيب قطعا لتقلبات زمن حداثي وحديث؛ ولعل الأمر لا يختلف
فيه اثنان، ونحن نعلم أن لا ثقافة مواطنة وفاعلة في المجتمع في غياب مثقف كارزماتي
يذكي ويساهم في سبيل إنتاج فكر طلائعي تفاعلي مع المحيط، وصولا إلى الكونية..
ولهذه الأسباب أصبح المثقف الغيور على الفعل الثقافي النابع من الجذور والمتطلع
إلى الكونية، أجل، أصبح مفروضا عليه استيعاب كل التحولات التي يعيشها العالم وبشكل
سريع، وهذا الاستيعاب وحده من سيعيد للفعل الثقافي روحه وجوانيته التي عبرها ومن
خلالها يمكن أن تبنى الثقافة المغربية خاصة، والثقافة الكونية عامة، علما أن
المغرب يزخر بالتنوع الثقافي واللغوي الذي يؤهله إلى الوصول إلى المبتغى شريطة إعادة
النظر في تركيبة الجمعيات الثقافية التي أصابها فيروس الفساد لا لشيء إلا أننا حقا
أصبحنا نعيش غياب حكمة « الإنسان المناسب في المكان المناسب..»، سيما تلك الجمعيات
التي راكمت ما راكمته من عطاء، لكن مع الأسف الشديد تراجعت عنه.. ولعل غياب
النوادي السينمائية، والمنابر الثقافية الجادة، وانفتاح الجامعات والمعاهد على
المحيط فعلا لا قولا فقط خير دليل على ما نحن عليه اليوم... وهذا بكل تأكيد راجع أيضا
إلى غياب سياسة ثقافية فاعلة إلى درجة أوصلتها على حين غرة إلى وهم التشدق
بالتنمية المستدامة التي تعتبرها مجرد تنويم مغناطيسي ليس إلا.. وفي هذا الإطار
تندرج بجلاء الحكمة القائلة « أعطيني ميزانية وزارة ثقافة دولة ما، أعطيك من تكون
».
وأكيد أن مناضرة طنجة الأخيرة التي شاركنا في اوراشها
ولمدة يومين وبدون توقف وبحضور وازن، وبالاشتغال في اوراش شاملة جامعة مانعة، كانت
تغطية بل تعرية للفعل الثقافي توصل إليها العالم العربي عبر ممثليه في المناضرة،
معية حضور وازن للدول الغربية؛ أجل توصلت اللجان إلى تحديد خبايا تقهقر الفعل
الثقافي انبثقت عن المناضرة هذه توصيات وصلت إلى الوزارات، والحكومات الممثلة في
المناضرة، ترى ماذا لو طبق منها الثلث فقط؟ أكيد سوف نكون قد أعدنا الروح للثقافة
التي عاشت الغرغرة لسنين عددا.. الم يكن من اللازم أن نصل حقا إلى حوار الثقافات
ومد الجسور بيننا وبقية العالم؟ ألم يكن من السهل اليسير علينا أن ندخل عالم
العولمة مدججين بترسانة من المعارف التي يزخر بها أبناء هذا الوطن المعطوب ثقافيا،
والحال أن جلهم يحقق ما يحققه من انجازات دولية، إلا أنهم مع الأسف الشديد لم يستأنسوا
رشدا بسياسة ثقافية وطنية ديمقراطية بعد أن داهمهم الإفلاس الذي أتى على الثقافة
ككل، وأصبحنا نتساءل في استغراب على حد قول شاعرنا الدكتور محمد السرغيني ونحن
نردد قوله: « ترى من فعل هذا بجماجمكم »؟.. وها نحن نرى الدولة خارج صلب التربية
والتعليم وصولا إلى المجتمع، حيث أغلقت علينا أبواب الانفتاح على الثقافات الأخرى..
لهذه الأسباب كلها أصبحنا نعيش أزمنة ثقافية مركبة ساهمت فيها أطراف شتى، إلى درجة
أصبحنا نخشى فيها على مصير الأجيال المتعاقبة التي أراها شخصيا تعيش هي الأخرى إعاقة أسسنا لها إجماعا، فرادى
وجماعات ومؤسسات وحكومات، فهل يا ترى من عاقل يستطيع أن يرجع المتسللين إلى
الثقافة إلى صوابهم... أسئلة تبقى رهينة بأفق انتظارنا..
الدكتور عبد السلام فزازي جامعة ابن زهر باكادير
0 التعليقات: