الثقافة المغربية وسؤال
المثقف: عَقَقْتَهُ قبلَ أن يَعُقَّك بقلم: الدكتور خالد التوزاني[1]
إن من يتأمل المشهد الثقافي المغربي يدرك من
الوهلة الأولى دون حاجة لكثير من الوقت أن جهل المثقف المغربي بثقافته المغربية هو
جزء من أزمة هذا المثقف
خاص بالمجلة
لا جدال في أن الثقافة
المغربية تشكل ثروة لامادية مؤهلة للإسهام في نهضة المغرب وازدهاره، وتقديم حلول
لواقع معقد، يتسم بالتشابك بين تيارات وافدة وثقافات دخيلة، والجدير بالذكر أن تلك
الثقافات الوافدة في سياق الحداثة والانفتاح وثورة الاتصال تجد من يدعمها ويقويها
ويحميها، في حين تظل الثقافة المغربية تصارع لوحدها داخل هذا الخضم، ولا تجد من
يساندها أو يرفع لواء كشف كنوزها وذخائرها. إن الصراع بين الثقافات اليوم في عالم
الإعلام والانفتاح الكوني على كل المجتمعات يعمل على إضعاف بعض الثقافات وإبراز
أخرى بحسب حجم الاهتمام وتسليط الأضواء، وقد تنقرض بعض الخصوصيات أمام زحف الكونية
وتيارات قادمة من أقصى الشرق أو الغرب، ولا شك أن الثقافة المغربية في الوقت
الحاضر تعيش وضعا يحتاج لمن يشخِّصُه بموضوعية والتزام بعيدا عن أي خلفية سياسية
أو إيديولوجية أو نفعية ضيقة، ونستطيع القول إن الحديث عن الثقافة المغربية هو
نفسه أحد التحديات الكبرى التي تواجهها هذه الثقافة من أبنائها قبل أن تصطدم
بالآخر البعيد.
كثيرا ما أساء بعض المثقفين المنتمين للمغرب
إلى الثقافة المغربية، ربما بوعي أو بغير وعي، من خلال ما يكتبونه أو ما يصرحون
به، ولعل هذه الإساءة غير المقصودة راجعة بالأساس لعاملين اثنين، يمكن إجمالهما في
"الجهل بالثقافة المغربية" و "الانبهار بثقافات وافدة" مع ما
يترتب عن هذين العاملين من آثار ونتائج تكشف جزءا من مأساة المثقف المغربي، ويمكن
أن نفصّل القول في هذين العاملين من خلال الآتي:
-
أولاً: جهل بعض المثقفين بما تتضمنه الثقافة
المغربية من رصيد ضخم من الحضارة المغربية في أبهى حللها وأجمل عصورها، في كل حقول
المعرفة ومجالات الإبداع وميادين الحياة، حتى شكَّلت هذه الثقافة ذلك الاستثناء المغربي
عبر التاريخ في تفردها وتميزها بخصوصية محلية واستقلالية في الفكر والمنهج عن كل
ثقافات العالم الأخرى عربية وأجنبية. هذا التفرد والاستثناء الذي يطبع الثقافة
المغربية يمثل جزءا من النبوغ المغربي على مر العصور والأزمنة، ويفسر ريادة المغرب
عبر تاريخه الطويل الحافل بالمنجزات الكبيرة في العلوم والآداب والعمران والحضارة،
وهو رصيد ضخم من الإنجازات التاريخية لم يتم استثماره بعد في تحولات المجتمع
المغربي ضمن السياق المعاصر وخاصة أمام تأثيرات ثقافات وافدة غريبة عن خصوصية
الثقافة المغربية، الشيء الذي يجعل بعض الشباب المغربي في حيرة وارتباك ويعرضه
لقبول تيارات لا تمت بصلة لبلده المغرب وتاريخه وهويته. إن من صنع هذه الثغرة، هو
ذلك "المثقف المغربي" الذي لم يكلف نفسه عناء البحث في ثقافته المغربية
ومعرفة ملامح هويته الأصيلة وتجليات القوة في حضارته وتاريخ أمته المغربية، فيعمل
على كشف أبعاد هذه الثقافة وامتداداتها في الواقع المغربي باستثمارها في أعماله
الثقافية. إن من يتأمل المشهد الثقافي المغربي يدرك من الوهلة الأولى دون حاجة
لكثير من الوقت أن جهل المثقف المغربي بثقافته المغربية هو جزء من أزمة هذا
المثقف، وخلل في الرؤية وقصور في المنهج وفقدان لبوصلة تحديد أولوياته، فحديث بعض
المثقفين المغاربة عن تهميشهم وعدم دعم "إنتاجاتهم الفكرية والإبداعية"
وتبخيس دورهم.. وغير ذلك من سيل شكواهم وسرد تذمرهم من واقع الثقافة في المغرب، إنما
هو حديث يكشف بوضوح لكل متأملٍ في المشهد الثقافي بالمغرب عن الوجه الآخر للمثقف
المغربي، وهو "عجز" اندماج بعض المثقفين في سيرورة الثقافة المغربية
وخصوصياتها، حيث يغيب البعد الوطني في كثير من الاجتهادات الفكرية والأدبية بل
المؤسف أن نجد بعض الأعمال التي تسيء للثقافة المغربية من حيث لا تشعر، وخاصة
عندما تستحضر بوعي أو بغير وعي ذلك الانبهار الملفت للانتباه بثقافات أخرى بعيدة
وافدة، لا لشيء إلا لأن مجتمعاتها حققت رخاءً ماديا وحرية مزعومة في الاعتقاد
والانتقاد. إن المثقف المغربي ينبغي أن ينطلق من "مغربيته" وهويته
وحضارته أولاً دون انتظارٍ لمن يشكر صنيعه أو يثني على مجهوده أو يقدم له دعما
ماديا بنشر أعماله وتكريمه والاحتفاء به.. وإن كان يستحق كل ذلك، لكن لا ينبغي أن تكون
هذه الغايات النفعية الضيقة منطلقا وموئلا في العمل الثقافي، بل يعمل المثقف على
شاكلة رواد الثقافة العربية وعمالقة الحضارة المغربية الذين كافحوا علميا وأدبيا
وناضلوا ثقافيا، وهم كثر لا يحصيهم عدد، أمثال عبد الله كنون وعبد الله الجراري
والمختار السوسي.. وغيرهم من "المثقفين الحقيقيين" الذين دافعوا عن
الثقافة المغربية وكشفوا عن نبوغ المغرب وتفرده بين سائر الشعوب والأمم، وهي القيم
التي يحتاجها المغرب اليوم للاستمرار في رقيه ونهوضه وبناء حضارة مؤثرة وفاعلة لا
متأثرة أو منفعلة، وهو دور –ولاشك- يقوم به بعض أعلام الثقافة المغربية في الوقت
الراهن، وإن كنا لا نراهم في وسائل الإعلام ولا نسمع بهم، فالعيب في القارئ الذي
لا يبحث والمثقف الذي لا يقرأ ولا ينقب فلا يُطوّر معارفه ومهاراته، إن المثقف
المغربي عندما يلعب دور الضحية ويشرع في لوم المسؤولين عن تدبير سياسة الثقافة بالمغرب، يكون لومه في الحقيقة مجرد
تخلص لا واعي من المسؤولية الذاتية الملقاة على عاتقه والتي لم يتمكن من الوفاء بها،
وكذلك تقصيره في المجهود الثقافي الذي ينبغي أن لا يكون مرتبطا بأي وجه من أوجه
التقدير أو الاهتمام، فالعلم والأدب خير شرف لصاحبه وخدمة الوطن مقامٌ لا يعرف
قدره إلا عرف قدر بلده وما في وطنه من خير وصلاح، بهذا ترتقي الثقافة في الأوطان
ويفرح الناس بالمثقف.
-
ثانيا: قد يكون وراء تبخيس بعض المثقفين المغاربة لثقافتهم
المحلية وحضارتهم الوطنية دون وعي منهم، ذلك الانبهار بالثقافات الأخرى الوافدة،
والإعجاب المبالغ فيه بما عند الآخر البعيد، على الرغم من أن المحلي والوطني قد يتضمن
على مستوى الثقافة أفضل مما عند ذلك الآخر، فنجد بعض المثقفين المغاربة –للأسف-
يبحثون عن أفكار جديدة في ثقافات بعيدة لا تمت بصلة للمغرب وذلك من أجل إثبات
اجتهادهم، وإنْ تحرَكَ بعضهم بدافعٍ طيب ورغبة صادقة في إغناء الثقافة المغربية
والإسهام في انفتاح المغرب والاستفادة من الثقافات الأخرى، إلا أن أعمالهم تظل
بعيدة عن اهتمامات المتلقي والقارئ المغربي فيعزف عن مشاهدتها ومتابعتها وقد
ينتقدها فينتقد من ورائها ذلك المثقف الذي لم يعرف كيف يستفيد من ثقافات الآخر في
دعم ثقافة المغرب وترسيخ الهوية وبناء الوطنية، لأنه لا يكفي الاقتباس من الآخر بل
ينبغي معرفة ما يحتاجه سياق المغرب فعلا وما يتطلبه الراهن، وألا تكون الغاية هي
لفت الانتباه وإمتاع المتلقي المغربي بالجديد والغريب والعجيب، في سياق الترفيه
وتزجية أوقات الفراغ والتخلص من ضغوطات الواقع، بل المطلوب تقديم حلول إبداعية
جديدة لمشكلات هذا الواقع وتحولاته، وتأكيد الارتباط بالوطن والهوية والتاريخ
والحضارة المغربية في أبعادها المشرقة وتجلياتها الريادية التي صنعت كفاءة الإنسان
المغربي ونبوغه وجعلته يتبوأ مكانة مرموقة في أوساط اجتماعية أقصى الشرق والغرب
وفي الشمال والجنوب.. حتى يشعر المتلقي المغربي بقيمة الراهن وجدوى الاستمرار في
البناء الحضاري للأمة، وليس الإحساس بالغبن والألم والحرمان كما تحاول تكريسه بعض
الأعمال الثقافية لمثقفين مغاربة لم يدركون قيمة ما عندهم فلهثوا وراء ما عند
الآخر، وظل المتلقي والقارئ المغربي في شوق لمغربيته المغيبة وحيرة أمام ما ينتجه
المثقف المغربي: هل يُنتِجُ ما يصلح للمغرب ويقويه، أم يساير التيارات الوافدة ويبدي
انبهاره بها بغثها وسمينها دون تكريس النقد الثقافي النزيه والجريء والتزام الحياد
والنقل الحذر وفتح آفاق جديدة للسؤال والتمحيص وتعميق النقاش وتنويع زوايا النظر..؟
وغير ذلك من الممارسات الثقافية التي ولا شك ستعيد للمثقف المغربي مكانته وريادته
إنْ أحسنَ توظيفها وكان منصتا جيدا للثقافة المغربية وللمتلقي المغربي وما يريده
ويطلبه ويرجوه، أما إن بقي مستغرقا في انبهاره بالثقافات الأخرى الوافدة فسيظل
مغيبا من اهتمام القارئ المغربي وإن عرف بعض الاهتمام فهو اهتمام زائف ومؤقت سرعان
ما يضمحل، لأن ما قام على الغير ذهب به الغير، وما تأسس على الذات ترسخ في هذه
الذات ونمى وترعرع وأثمر الخير والزرع. إن المثقف المغربي عندما ينتقد المشهد
الثقافي بالمغرب ويرفع صوت المطالبة برد الاعتبار لمبادراته واجتهاداته ينسى أو لا
ينتبه إلى أمر هام وخطير، وهو أنه قد تنكر لانشغالات هذا المشهد الذي ينتقده
ويتذمر منه وانسلخ من خصوصيات ثقافته المحلية في أعماله وإبداعاته، ثم يشكو ظلم
أهله.. وهو قد سبقهم بالظلم وعقَّهم قبل أن يعقوه؛ عندما لم يضع الثقافة المغربية
ضمن أولوياته وانشغالاته، فخاطب القوم بما لم يفهموه وتكلم بما لم يعرفوه، فهل كان
حقا عليهم أن ينصفوه؟
وأخير، إن المثقف المغربي المعاصر الذي لا يمل من إبداء قلقه وتذمره من وضع لا
يعترف بجهوده ولا يقر باجتهاده ولا يبالي بأعماله، لم يتجرأ هذا المثقف على مراجعة
الذات وسؤال النفس وتقويم الحصيلة وقراءة الحاضر وفق معطيات حضارية جديدة لم ينتبه
إليها من قبل. ولعل عامل الجهل بالثقافة المغربية إلى جانب الانبهار بالثقافات
الأخرى، قد شكَّل عائقا أمام كل طموح نحو تخليق الفعل الثقافي بالمغرب وتحديث
آليات الفكر والمنهج والارتقاء بوضع الثقافة والمثقف في عالم ينزع نحو الكونية
ويلتهم الخصوصيات ليقبر حضارات منافسه له.
رؤية من الهامش
عققته قبل أن يعقك: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكو إليه عقوق
ابنه؛ فأحضر عمر بن الخطاب ابنه وأنَّبَه على عقوقه لأبيه، فقال الابن: "يا
أمير المؤمنين، أليس للولد حقوق على أبيه؟. قال: "بلى". قال: "فما
هي يا أمير المؤمنين؟". قال: "أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب،
أي: القرآن". فقال الابن: "يا
أمير المؤمنين إنه لم يفعل شيئـًا من ذلك؛ أما أمي فإنها كانت لمجوسي، وقد سماني
جعلاً -أي: جعرانًا-، ولم يعلمني من الكتاب حرفـًا واحدًا"!. فالتفت أمير المؤمنين إلى الرجل، وقال له: "أجئت إليّ تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن
يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك؟!".
وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن بشخوص
ووقائع أخرى وفي سياق مختلف، مع عبرة واحدة وفائدة مستنيرة في ما حدث، حيث ينطبق
الأمر نفسه مع المثقف المغربي باعتباره أباً مزعوما لمشهد ثقافي في الحاضر يتنكر
لبعض آبائه ولا يبر بهم، فيسيح الأب/المثقف المغربي في الأرض شاكيا عقوق
ابنه/المشهد الثقافي بالمغرب، وينسى المسكين أنه قد عقَّ ولَده قبل أن يعقه هذا
الأخير.. فهل يمكن للمثقف المغربي أن يكفِّر عن خطيئة البُعد، ويعود لاحتضان
ثقافته والإنصات لحضارة أمته؟ تلك معادلة الارتقاء بالمثقف نفسه عبر خوض تكوين
عصامي ذاتي ومؤسساتي لنيل أرفع الدرجاتِ في فهم خصوصياتِ الثقافة المغربية والنبوغ
المغربي، وكما قال الإمام الغزَّالي: "المشهد هناك لمن يريد أن يراه".
0 التعليقات: