مبدئيا لا أجد للحديث عن تفرغ
المبدع ما يبرره،
بالنظر لطبيعة الصراع التاريخي،
بين ما يمثله الكاتب في مستواه
الإبداعي،
و ما تمثله المؤسسة الناظمة لوجوده
الاجتماعي والثقافي،
على افتراض أننا نتحدث عن الكاتب
الذي تحكم كتابته رؤيا للعالم،
هي نتاج وعيه بالوجود،
من خلال تفاعل تراكمات معرفية
وثقافية في كيانه الذهني والنفسي.
بل أزعم أن مساءلة إمكانية الوصول
إلى تفرغ الكاتب،
إنما تطرح في سياق مختلف لدرجة
التناقض،
مع حقيقة السياق الموضوعي المؤثت
لوجود الكاتب المبدع نفسه.
لذلك،
أجدني في خندق المعترضين على أية
دعوة لتمتيع ذلك الكاتب،
من تفرغ يعتقد في تشجيعه على
الكتابة في ظروف أفضل،
بينما المطلوب توفير مناخ يحفز على
انطلاق الكاتب المبدع،
دون وجود علامات مرور تعيقه
بالتهديد في حياته وحياة من يرتبط بهم.
علما بأن الواقع شاهد على منحى
الدولة في تعاطيها مع الشأن الإبداعي،
حين تكون وجهته المغايرة على خلفية
ضرورة التحرر،
في اتجاه الاعتراف بالحق في
الحرية،
وليس المسايرة من موقع المهادنة،
تحت هواجس الخوف والتردد،
و ما يتصل بهما من أشكال الحصار
سرا وعلناً.
هل تستحضر الدعوة أو المطالبة
بتفرغ الكاتب طبيعة الجهة المعنية بالإذن،
و هي تبحث عن توفير وضعيات تليق
بدوره الريادي،
وتتناسب مع حضوره الطليعي بالنظر
لما يجسده في تعبيراته،
من معاني السمو بوجوده الفكري
والجمالي و الاجتماعي،
في منأى عن أية تبعية أو اتباعية،
يمكن أن تراهن عليها منظومة أو
نظام،
حفاظا على استقرارها في ظل
الاستمرار؟؟ !!
بمعنى أن أية دعوة في اتجاه
المطالبة بالتفرغ،
و من خلالها الدعوة إلى تداول كيفياته
و المقاييس التي ستعتمد لتطبيقه،
من قبيل الحصول على بطاقة الكاتب،
على غرار المعمول به في مجالات
أخرى،
إنما تفرغ الكاتب من محتواه الفاعل
بخصوصياته الذاتية،
للزج به في أتون إعادة الإنتاج على
مقاسات معلومة،
لا أقل ولا أكثر.
اللهم إذا كان التفرغ لغير غايات
الكاتب من وجوده الفعلي،
كأن يندرج الحديث عن تفرغ الكاتب
على التعميم،
ضمن القول بحاجته إلى غلاف زمني
يسعف في تحقيقه لوظيفته ضمن منظومة أو نظام ؟
في غياب أي جدل أو صراع مفترض
باعتبار التصادم التاريخي بين نزعتي الثبات والتحول.
أو ضمن التداول حول وضعيته
المادية،
باعتبار ما يمكن أن يحققه التفرغ،
من ظروف عيش تغنيه عن سؤال الحاجة
المادية،
وما تفرضه ظروفها من تحجيم
لإمكانياته في الارتقاء بكتابته؟
ثمة فروق جوهرية بين تفرغ الكاتب،
و ما يعاش من أشكال التفرغ في
مجالات أخرى،
علميا و مهنيا أو حتى رياضيا و
موسيقيا،
و مرجع ذلك الاختلاف طبيعة الكاتب،
حين يتجاوز تعريفه اللغوي من
الكاتب بالتعلم،
إلى تعريفه الاصطلاحي في وضعية
كاتب بالإبداع و التفكير،
- إن الكاتب
المبدع بالتعلم، يقف بكتابته عند عتبة توظيف المعرفة باللغة والأدب، ( الاكتساب
التعلمي لتاريخ الأدب بأجناسه وأنواعه في لغته أو في لغة الآخر) لبلوغ جمالية
الأداء الفني في إنشائه،
دون أدنى انشغال بالصراع كمحرك
لتخيلاتهم وتمثلاتهم للواقع من حولهم.
و هؤلاء يمكن أن يستفيدوا من
التفرغ للكتابة حتى من غير طلب أو إذن،
لأنهم في النهاية من خدم أو خديمي
النظام و المؤسسة.
في مقابل ذلك،
نجد الكاتب المبدع بالثقافة و الفكر،
أبعد ما يكون عن التوقف بكتابته
عند عتبة تشكيل الوعي بالمتحصل،
في الرصيد التاريخي للانتماء
القومي أو الديني أو اللغوي،
إذ ينفتح على انتماءات و تواريخ و
حضارات،
تتنوع مشاربها و تتعدد مصادرها و
اتجاهاتها،
لبناء نسق من الوعي بالعالم،
كفيل ببلوغ الاستعداد للانخراط في
كتابة بديلة،
ترفض قيود الولاء لنظام أو مؤسسة
تسعى لاحتوائه،
بفرض الاتباع و التقليد والمسايرة،
بديلا عن الإبداع و التجديد و
المغايرة .
إن الكاتب موضوع الاعتراض على تمتيعه
بذلك التفرغ الملغوم،
منتجٌ للرُّؤيا بالتَّلفُّظ
إمتاحاً من قاموسٍ لغويّ يختزنُ ذاكرة كينونته،
مع تحويل وتوليد الممكن فيها و
منها،
بحثا عن صيغة تراهن على تحقيق
متعتي الإمتاع والإقناع،
في أفق أفق الاعتقاد بقيم كونية و
إنسانية،
تقبل بالتعالي على المجرد في بعده
الهلامي،
بقدر ما ترفض المُحدَّدَ في إطارٍ
بمرجعية البعد الواحد،
في الدين والاجتماع والثقافة و
الفكر والأدب.
إن الكاتب في تعبيره عن الوجدان
العميق للأمة،
من خلال التفنن في رسم صور الممكن
من المستحيل،
على رأي الراحل عبد الجبار
السحيمي،
إنما ينتج عالما بديلا عن عالم
منحط في الغالب.
و لعل مجرد القبول بتناول التفرغ تحت أي عنوان كان،
إنما يلغي حقيقة الكاتب المبدع بنزعته الإنسانية،
غير القابلة للمزايدة عليها بمنطق الربح والخسارة،
إلا ما اتصل منها بالقيم التي يؤمن بها وينطلق في كتابته
منها،
دون توجيه مؤسسة أو نظام،
وقد يكفي إجمالا للتعبير عن الاعتراض في النهاية،
القول بأن التفرغ الوارد و المقبول تجاوزا في مجالات أخرى،
يبقى مرفوضا بالقوة وبالفعل في مجال الإبداع باللغة،
حين تكون الكتابة إضافة نوعية،
لمختلف تعبيرات التحول المجتمعي،
من منطلق كوني وإنساني.
***************************
بين القنيطرة والقصر الكبير:
محمد المهدي السقال
0 التعليقات: