خاص بالمجلة
ــــ ما هو موقفك مما يكتنف المشهد الثقافي المغربي من ضبابية
وغياب الرؤية الواضحة ؟
ــــ أين يكمن الخلل في نظرك في السياسة الثقافية أم في اهتزاز
قيم بعض المثقفين واستشراء الفساد الثقافي أم فيهما معا ؟
ــــ ما هي في نظرك الحلول القمينة بإعادة الاعتبار لدور
الثقافة والمثقف في المشاركة في بناء الثروة اللامادية للمغرب اليوم وغدا ؟
المثقف، في ساحتنا المغربية والعربية عموما (إلا
قلة قليلة جدا) إما كان تابعا لقبيلته السياسية (الحزب أو التنظيم) أو كان تابعا للنظام
الحاكم.
تقف هذه الأسئلة كالتهم في وجه المثقف، الذي يعيش في هذه
الفترة بالذات عزلته وانحصار تأثيره، يذكي ذلك انصراف الناس إلى أمور أخرى لا علاقة
لها بالثقافي، الثقافي كما ترسخ لدينا خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي،
حيث يشكل الكتاب محورا هاما في نقل المعرفة والتربية والتثقيف، الكتابُ الذي كان الجميع
يرجعون إليه، يرجع إليه المسرحي والسينمائي ويرجع إليه الفنانون الآخرون من جميع المشارب
والتخصصات. مكانة المثقف، تأثيره في الأحداث، موقعه في المقدمة عند اشتعال الجبهات…
هو ما يمكن التساؤل عنه الآن، وليس المثقف ككائن اجتماعي معرض لكل آفات مجتمعه
قبل الجواب عن هذه الأسئلة، التي تجسد قلقا ما، وتحمل اتهامات
واضحة للمثقف، لابد أن نحدد المفهوم(مفهوم الثقافي)، وإلا انزلقنا في دروب لن تؤدي
بنا سوى باتجاه المتاهة، وتزج بنا في حمأة اللغط الذي يذكيه الخلط بين الأشياء…
الثقافي بالنسبة لي هو كل هذا البناء الحضاري بشقيه المادي
والمعنوي، بثرواته المادية والروحية، وإلا سنسقط في جريرة الفصل بين البناء التحتي
والبناء الفوقي، وهو الأمر السائد لحد الآن، وربما بسببه تعمقت قطيعة المثقف بالأرض
التي كان من الواجب أن تُسند خطواته، وكان من حقها عليه أن ينيرَ دروبَها المُعَتَّمَةَ…
فلا ثقافة بمفهومها الصحيح دون تلك البنية التحتية التي تنتج الثروة والرخاء لمجموع
المواطنين، حتى ذلك الحد الذي يتقاطع فيه مفهوم "ثقافة" بمفهوم "حضارة"…
وأنا أتأمل المفهومين معا، في تقاطعهما والتقائهما في أكثر من موقع، تقف إلى الذهن
مقولة صراع الحضارات، صراع الأفكار، صراع المفاهيم…
يبدو لي، وأنا أتأمل التاريخ البشري، أن الشعوبَ تعيش منذ
القدم عملية غزو متبادل، تقوم به الشعوب القوية (قد تكون متقدمة حضاريا وقد تكون متوحشة)
تجاه التجمعات البشرية الضعيفة، أو الأضعف منها (حتى ولو كانت أكثر تقدما من الغزاة)،
وطبعا صد الغزاة لا يتم بالأفكار والخطابة وإنشاد القصائد(وإن كانت القصائد والخطابة
جزء من عملية التصدي من خلال رفع الهمم)…
حديثا تم الغزو بادعاء نشر الحضارة بين شعوب متخلفة أو متوحشة،
ورافقت الجنود أقلام وصلبان وفنون… لكن الغزاة عندما ينسحبون يتركون اللغةَ خلفهم،
بكل ما تحمله وترمز إليه كوعاء للحضارة والتاريخ. ليس اللغة وحدها، هناك رموز وبنايات
وجسور ومسارح، وكل ما يمكن اعتباره إرثا ثقافيا أو حضاريا… ولا تتوقف عملية الصراع
مع المحتل (الذي يكون قد رحل)، إذ تستمر "المواجهة" بأشكال مختلفة، صراع
تضطلع الايدولوجيا بجانب كبير منه، سواء الإيديولوجية ذات الحمولة المستنيرة، والتي
يمكن اعتبارها نبراسا على درب التحرر والتقدم والديمقراطية، أو تلك التي تمتاح من الماضي
السحيق وتعمل على العودة لما كان عليه السلف الصالح، فيصبح الصراع بثلاثة أضلاع، صراع
داخلي بين ما هو رجعي وبين ما هو مستورد، وبينهما وبين ثقافة وإيديولوجية المستعمر
الذي خرج من الباب ويعمل على الدخول من الشباك…
هل انتهت حالة الغزو، في أيامنا هذه؟ اعتقد بأنها أصبحت أكثر
شراسة، وبأنها اتخذت أشكالا حربائية، بل أن أحد وجوهها بلغ حدا من الدموية لم تشهد
له البشرية مثيلا، دموية جحافل المحتل الأجنبي الذي قد لا تطأ قدماه الأرض، مدعوما
بآلة إعلامية قادرة على تزييف الحقائق، ودموية المجموعات المسلحة التي تنصب نفسها وصيا
على الرأي والإيمان…
المثقف، في ساحتنا المغربية والعربية عموما (إلا قلة قليلة
جدا) إما كان تابعا لقبيلته السياسية (الحزب أو التنظيم) أو كان تابعا للنظام الحاكم.
في الجهة الأولى يُنَظِّر لمواجهة الثقافة اللاوطنية اللاشعبية التي تتبناها الطبقات
المستفيدة من ثروات البلاد(حيث الشطط في استعمال السلطة والجاه لِلاسْتِئْثار بالثروة)،
ومثقف السلطة يرفع راية مواجهة الأفكار المستوردة (التي تعني الديمقراطية والاشتراكية
ولا تعني أفكار الرأسمال). وإذا كان المثقف المنتمي للأحزاب المعارضة ينظر ويفكر انطلاقا
من انتمائه إلى رؤية"واضحة"، فإن مثقف السلطة يجابه من زاوية المصالح الواضحة…
ارتباط الثقافة بالتوجه السياسي للسلطة الحاكمة أو للمعارضة
له تأثيره القوي على الرؤيا العامة والرؤيا الخاصة للمثقف… هنا يمكننا الحديث عن ما
"يكتنف المشهد الثقافي المغربي من ضبابية وغياب الرؤية الواضحة"، والذي مرده
لغياب المشروع المجتمعي الواضح لدى الفرقاء السياسيين الذين كانوا يدفعون بالمثقف لكي
يصوغ ويُبَلِّغ فحوى "مشروعهم" إلى القاعدة الشعبية (قاعدة في أغلبها لا
تفك الحرف)، السلطة الحاكمة بدورها فقدت ما كان لها من استقلالية نسبية لدخولها كطرف
في رأس المال العالمي واستثمارها في الأسواق الدولية، وهو ما يفرض عليها تغيير خطابها،
فهي من جهة سلطة ترتكز في عمقها على توظيف واستعمال الخطاب الديني داخليا ومن جهة أخرى
– في خطابها مع العالم الغربي- سلطةٌ بواجهة ديمقراطية… المثقف الذي استعملته السلطة
وجد نفسه في بلبلة مفاهيمية إذ عليه أن يبرر اختياراتها الداخلية ويطبل ويزمر لمنجازتها
أمام هجمات المنظمات الأجنبية… نفس البلبلة أصابت المثقف الحزبي عندما تمت تحالفات
بين السلطة الحاكمة والمعارضة،فقد وجد نفسه أمام اشتراكيين يطبقون إملاءات البنك الدولي
وينهجون طريقا رأسمالية، ودينيون يخضعون لنفس الإملاءات
المثقف في حاجة لجهة تتبنى إنتاجه الفكري والإبداعي وتترجمه
فعلا من أجل تغيير الواقع لصالح المسحوقين، لا أن يتم استعماله في تبيض الممارسات الخاطئة،
والدفاع عن هذه القبيلة السياسية أو تلك أو ينافح عن هذا الزعيم أو ذاك… المثقف فرد
ولن يكون قوة فاعلة إلا داخل إطارات همها إشاعة الثقافة والفكر وفضح الخلل داخل المجتمع،
فمكانه (ككائن مجتمعي) هو اتحادات وروابط الكتاب وغيرها من الإطارات المشابهة…، من
هنا يمارس مهامه للتأثير في المجتمع من خلال إنتاج الفكر والثقافة والإبداع والفن،
وهذا لا يتعارض مع انتمائه السياسي، على أن يكون هناك ذلك الفرق الواضح بين موقعه كمثقف،
له هامش واسع من الاستقلالية والحرية في أن يكون نزيها ومحايدا لاتهمه لومة لائم، وموقفه
كحزبي يفرض عليه الالتزام والخضوع إلى رأي الأغلبية حيث يحيد- رغما عنه- عن جادة الصواب
إلى الحد الذي يجد فيه المبررات لسحق خصومه وحتى من كانوا للأمس القريب رفاق الدرب…
انطلق منذ مدة نقاش حول استقلالية الثقافي عن الحزبي، وكان هناك خلط بين السياسي والحزبي،
بين الموقف وبين الانتماء والانضباط
في أجواء يتم استخدام المثقف من طرف السلطة الحاكمة ومن طرف
الأحزاب والتجمعات، وكبورجوازي صغير، نجده ضحية للصراع بين القوتين المتصارعتين، وضحية
لوضعه الاقتصادي والاجتماعي الذي يضعه قريبا إلى الطبقات الفقيرة (عندما يكون تحت)
وقريبا إلى الطبقات الغنية (عندما يكون فوق)، وهي وضعية تذكي عملية الوصولية والتذبذب،
إلا في تلك الاستثناءات المنيرة والقوية التي أعطتنا مثقفين ثوريين، من صفوف البورجوازية
الصغيرة، والذين غيروا الأوضاع عبر تاريخ الصراع مع السلطة الحاكمة
ساحتنا الثقافية والفكرية أعطت أسماء كبيرة، بلغ صداها أطراف
العالم، لكن أين الجهات التي تسترشد الآن بفكرهم وعطائهم، يحضرني الآن عالم المستقبليات
الراحل الأستاذ "المهدي المنجرة"، الذي استفادت من علمه واحدة من الدول المتقدمة
عالميا، وغيره كثيرون ممن همشنه الدولة وحلفائها. المثقف وحده الذي لا يتمتع بالتفرغ
الذي يتمتع به النقابي والحزبي
طبعا لن يتم إصلاح الوضع الثقافي، ومعه السياسي والحقوقي
وغيرهما، إلا عندما تملك الأحزاب والدولة مشروعا مجتمعيا يضع في قلب اهتماماته سعادة
المواطن وأمنه الصحي والغذائي، وأن تعي كل الأطراف أن أي تقدم يَتَغَيّا الرخاء والسلم
لا بد أن تكون الثقافة رافعة لهذه المشاريع، التي قد تختلف فيها السلطة والمعارضة حول
بعض الجوانب وتتفق حول رفاهية المواطن، عندها تعالوا اسألوا المثقف…
توفيقي بلعيد
0 التعليقات: