الخميس، 5 مارس 2015

الناقد محمـــــد أقضـــــاض

نشرت من طرف : ABDOUHAKKI  |  في  9:16 ص

الناقد محمـــــد أقضـــــاض
الثقافة بين الأزمة والسياسة
تقوقع النخبة الثقافية على نفسها، وبكونها أضحت صدى للنهايات التي انتشرت في الفكر الغربي
خاص بالمجلة
لابد أن نشير إلى أن الثقافة المتداولة راهنا في المغرب، سواء في الشارع أم في الإعلام، هي ثقافة التسطيح، ثقافة تسهم في إنتاج أجيال لا تفكر ولا تستشرف ولا تنقد، هي ثقافة الانتكاس نحو الوراء، تستند إلى ما هو أسهل مضخم في العواطف. ثقافة صفراء وأحيانا سوداء، وفي أحسن الأحوال هي ثقافة الإشهار الموسعة لسوق الاستهلاك.. وربما هذه الحالة لا تخص بلدنا فقط وإنما هو السائد في كل العالم وأساسا في الفعالم العربي.. هذا هو المشهد العام، لكن أين موقع ثقافة النخبة المغربية في الراهن؟
وقبل أن نحاول الجواب عن هذا السؤال ،  أريد ضبط مفهوم الثقافة النخبوية، وهي في اعتقادي الثقافة ذات العمق الحداثي، المنتجة للمعرفة أو المساهمة في نشرها، المراكمة للقيم الإنسانية والحامية لها والمنمية للمدارك والمواجهة لباقي النخب.. فتمثل الثقافة إحدى أهم وسائل اندماج الإنسان في محيطه وتجعله أكثر تحضرا وحرية وتسامحا، وتهيؤه ليكون قادرا على استشراف المستقبل.. الثقافة النخبوية إذا تأزم المجتمع تجعل الإنسان يتطلع إلى تغيير واقعه.. ولأنها ترى هذا التغيير حتميا تساهم في التخطيط له وخلق صورة لمجتمع بديل يمكن أن يتحقق كله أو جله أو جزء منه.. أما حين يكون المجتمع في أزمة والثقافة في أزمة حينئذ تتقلص أهم خصائص الإنسان الإنسانية وتذوب قيمه وتتفكك أواصره، وتضأل إنتاجيته ويضيع في الفوضى واللاأمن..
على ضوء هذا التصور العام نستطيع أن نقرأ طبيعة ثقافة مجتمعنا الراهن، فإذا تأملنا الفترة الممتدة من بداية الستينيات إلى حدود نهاية السبعينيات، لاحظنا أن الثقافة، رغم كونها لم تملك القدرة على القيام بنهضة ثقافية حقيقية، ورغم أنها كانت أهم عدو للمخزن فجعلها ضمن هاجسه الأمني، رغم ذلك تميزت، على الأقل:
1ـ بدفاعها عن قيم الإنسان الكونية في مواجهة المنع ومصادرة الحريات.. وأنها كانت ثقافة متمايزة عند النخبة، شطر ذو مرجعية سلفية ولبرالية وشطر ذو مرجعية اشتراكية.
2ـ وبكونها في اختلافها احتوت ما هو سياسي، فكان المثقف في نفس الوقت سياسيا، مرتبطا بإحدى الإيديولوجيات.. قادرا على فهم ووعي وتفسير المفاهيم الضرورية لإصلاح أو تغيير المجتمع، مفاهيم العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة والطبقات والصراع الطبقي والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وربطُ السياسةِ والثقافة بوعي إيديولوجي ومبدئي، يلحم أعضاءَ جماعة ما..
3ـ بنماذج مثقفين لهم تأثير واسع، أمثال علال الفاسي، محمد بالحسن الوزاني، عبد الله كنون، عبد الكريم غلاب، أبو بكر القادري، عبد الجبار السحيمي، عبد الله إبراهيم، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، محمد عزيز لحبابي، أحمد السطاتي.. مارس أغلبهم في نفس الوقت العمل السياسي.. شكلوا ثقافة نخبوية جامعة للبعدين السياسي والإيديولوجي ضمن الثقافي، خضوعا لفكرة لا وجود لثقافة بدون سياسة أو بدون إيديولوجيا، ولا وجود لسياسة وإيديولوجيا بدون ثقافة. فكانت الثقافة المغربية لتلك الفترة قائمة على التنظير والممارسة والصراع محتفظة نسبيا على استقلاليتها ورمزيتها...
4ـ بكونها ثقافة مركبة فرضت على صاحبها أن يفكر في الذات وفي الجماعة، تفكيرا غالبا ما تميز بكونه شاملا، نظرية ومنهجا وتجربة، وفي نفس الوقت ثقافة تقاتل كي تنتشر بين أفراد الشعب في المجتمع.. لذلك كانت ثقافة متسامحة لكنها أيضا صدامية مع ثقافات أخرى مخالفة متشبثة بالتكلس. فكان المثقف، وكل نخبته، يتعرضان للمنع والحرمان من حريتهما وأحيانا الحرمان من الحياة، غير أن رسوخ قيمهما جعلهما يدافعان عنها رغم كل ذلك. إذ كان جل أفراد هذه النخبة يحملون صورة بروميثيوس في تنوير المجتمع بثقافتهم، وفي نفس الوقت صورة سيزيف في إصرارهم وتضحياتهم.
5ـ بكونها أدت إلى إنتاج هذا البصيص من الديمقراطية الذي ينمو في بلدنا ببطء، وإلى هذه النسبة المضطربة من الحرية وحقوق الإنسان.. وهي بذالك ساهمت نسبيا في التغلب على أزمتها وأزمة مجتمعها.
وكان من المفروض أن تتسلم الثقافة الحالية المشعل وتطور وتنمي، وهو ما ننتظر أن تقوم به ومازلنا ننتظر. فمنذ بداية الثمانينيات بدأت الثقافة النخبوية في المغرب تغير مسارها، أضحت حسب ما أرى تتميز:
1ـ بكون المخزن مازال يدمجها في الهاجس الأمني باعتبارها طاقة مشاغبة.. فيحاصرها بأشكال شتى..
2ـ بكونها كثيرة الإنتاج في جل المجالات... غير أنها قليلة التأثير، إن لم تكن عديمة التأثير، في المجتمع.. فقد انفصَلت بذاتها عن المجالات الأخرى، خاصة السياسية والإيديولوجية، فأصبحت النخبتان السياسية والثقافية معا منعزلتين ومعزولتين بل ومتقوقعتين.. وانحصرت السياسة في رقعة ثلاثية الأضلاع: البيروقراطية والتيكنوقراطية والتيوقراطية.. فأدى ذلك إلى ضمور الخيال في السياسة وأحيانا في مجالات ثقافية أخرى، وأصبحت النخبة السياسية أكثر عقما في برامجها وتنظيراتها واشتغالها، الأمر الذي يؤدي بها نحو النزوع إلى الانفصالات الحزبية.. وغدت نخبتنا الثقافية، حين ارتاحت للمسافة الفاصلة بينها وبين النخبة السياسية، وارتاحت لمقولة موت الإيديولوجيا، صدى أيضا للنظريات الغربية، في عدة مجالات، وهو ما يعمق ضعف اجتهادها، باستثناء مجال الكتابة الأدبية..
3ـ بتقوقع النخبة الثقافية على نفسها، وبكونها أضحت صدى للنهايات التي انتشرت في الفكر الغربي، نهاية الإنسان، نهاية التاريخ، نهاية التحليل النفسي، نهاية المؤلف ونهاية الإيديولوجيا. الخ. وإذا وقفنا عند البعد الإيديولوجي وجدنا أن الإيديولوجيا المقصودة بالنهاية، هي التي تناضل ضد الظلم والتفاوت الاجتماعي وتدفع نحو التغيير.. وفي نفس الوقت تدفقت الإيديولوجيات من كل حدب وصوب، تشجع مجتمعنا على استهلاك السوق، فيتحول الإنسان إلى جهاز استهلاك، وأصبحنا نستقبل من الشرق خليطا من الإيديولوجيات الاستهلاكية عبر الإشهار وأدلجة الدين أدلجة انتكاسية.. شكلت هذه الإيديولوجيات الجزء الأكبر من مشهدنا الثقافي عبر جل القنوات الفضائية وأحيانا عبر شبكة الأنترنيت..
4ـ بكونها حين شيعت جثة الإيديولوجيا التي قتلها بعض المفكرين الغربيين، أضحت في حد ذاتها نخبة مفككة، تعيش كل ذات فيها لنفسها، وأصبحت الهموم الشخصية تطغى على الهموم الجماعية والاجتماعية، وغاب التماسك النخبوي والفئوي والطبقي فغرق المثقفون في ذواتهم واتخذوا بشكل غير مباشر شخصية نرجس نموذجا، الأنا قبل كل شيء. وهو ما أدى إلى تعميق أزمة المجتمع، رغم تلميع الواجهة، فهيمنت ثقافة الانتكاسة وانتفت قيم التسامح ومحاربة الفساد، وأضحى المجتمع يعج بكل أنواع ومستويات عصابات المخدرات واللصوص وقطاع الطرق والأزقة، وأصبح التعليم المأزوم يساعد على إنتاج اللاقيم والقيم المضادة.. فأسهمت هذه الثقافة نفسها في أزمة المجتمع. أزمة نعيش بعض تجلياتها في الشارع ونقرأ بعضها فيما ينبشه إبداع الكتاب..  
5ـ بعجزها عن أن تتحول إلى استثمار اقتصادي. فالكتاب المغربي المطبوع في المغرب قليل التداول في وطنه وهو لا يخرج ليتم تداوله خارج وطنه، بل أصبحت دور النشر في جل البلدان العربية تستثمر هذا الكتاب وتستفيد منه ماديا ومعرفيا.. وعجز الفلم المغربي عن أن يتداول خارج البلاد، بل وحتى داخل البلاد، رغم ما تدره الأفلام على البلدان حين تكون قادرة على إثارة المُشاهد، كما هو الحال مع الفلم التركي والكوري والمكسيكي.. الذي يغرق القنوات المغربية والعربية معا.. ومن المعروف أن مثل هذه الأفلام، المثيرة فنيا والساقطة مضمونا، تدر أموالا على أصحابها وبلدانها..
6ـ بأنها ثقافة قليلة الاهتمام بالتنوع الذي يميز المغرب، نادرا ما تعمل على إبرازه واستثماره والاستفادة منه كواجهة مميزة للوطن ضمن المشترك الكوني..  لذلك كله، ومثل باقي النخب في العالم العربي، لم تسهم هذه النخبة في ما يعرف بالربيع العربي. بينما إذا تأملنا حركة التاريخ وجدنا أن كل الثورات مهما كان نوعها كان المثقف في عمق حركيتها، ماعدا نخبنا في زمننا الراهن، لذلك أنتج هذا الربيع العربي في جل البلدان التي اكتسحها، مستقبلا/غولا قاتلا للإنسان ولمستقبله..
ب ـ السياسة الثقافية: هل النخب السياسية المغربية قادرة على أن تجمع بين السياسة والثقافة أو بين الثقافة والسياسة؟ وهل للثقافة اعتبار عند هذه النخب؟... من حقنا أن نحلم فنقول: يمكن أن يحدث ذلك، إذ تحتاج فقط لوقفة تأملية فتتهيأ لتدبير شؤون البلاد تدبيرا سياسيا شاملا عاملا على ضبط المجتمع ومكوناته ومواجهة خلافاته، وحماية تماسكه وتوسيع موارد عيشه اعتمادا على الشعب نفسه وطاقاته الخلاقة.. ويمكن أن نبالغ في الحلم فنقول: إنه من الممكن أن تعتمد هذه النخب السياسية التدبير العقلي من خلاله تخطط للراهن وللمستقبل، وتملك الرؤية الشاملة التي تجمع بين القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وو.. ويمكن أن نتمادى في الحلم ونقول: إن هذه النخب لابد أنها تدرك أهمية الثقافة في تنمية البلاد وسيادة السلم الاجتماعي والأمن والتسامح، وإلا اعتبرت جاهلة وتفترض أنها تحكم شعبا جاهلا، فتسهم في إنتاج الفوضى والتخلف واللاسلم واللاتسامح.. إذ لا يمكن أن تهمل سياسة ثقافية حديثة عقلانية لأني أفترض أنها نؤمن بأهمية دور الثقافة.. ولنحلم أنها تدرك هذه الأهمية، حينئذ تخطط:
1ـ برؤية شاملة للقطاعات التي لها علاقة بالثقافة. إذا كانت الآن تعيش انفصالات قطاعية محزنة ولا تهتم فيها إلا بالخانات الضيقة والمغلقة، ولا تواجه مشاكلها إلا بالأرقام بما في ذلك أرقام الميزانيات، خضوعا للتخطيط التيكنوقراطي، وحين تتعقد المشاكل في دائرة من دوائر كل قطاع، تحاول إسكاتها والهروب منها وتأجيلها إلى أن تتعقد، خضوعا للذهنية البيروقراطية، وحين تتعقد وتشتد تواجه نتائجها الشكلية بالتصور التيوقراطي..
 لنحلم مرة أخرى ونقدر أن تلك النخب، على رأسها الحكومة، حقا تريد المعالجة الشاملة لقضايا المجتمع، حينذاك يتفاعل ويتناسق قطاع التعليم في تكامل بين كل مستويات تدبير ملفه، فندرك أن إصلاح التعليم ليس بإثقال التلميذ بالمواد والأوراق والساعات، وأن نمارس المثل المغربي الدارج "طاحت الصمعة علقو الحجام"، "انحط التعليم علقو المدرس". يكمن الإصلاح في امتلاك رؤية مستقبلية تربط بين مواد التعليم وحاجيات المجتمع المتطلع للتنمية، وفي ضبط المناهج التربوية الفعالة ولو بتقليص المواد والساعات كما تفعل البلدان التي تتطور، وتشجيع المدرس على تجديد نفسه وتنمية معارفه وضبط منهاج التدريس... يكمن الإصلاح في تفاعل وتناسق هذا القطاع في كليته مع قطاعات لها علاقة بالثقافة، مع وزارة الثقافة ووزارة الشباب والرياضة ووزارة الأوقاف ووزارة الإسكان أيضا، التي تبني أحياء وحتى مدنا بدون مرافق وخاصة الثقافية... هذه القطاعات في الحقيقة ينبغي أن تكون قائمة على العناية بالصحة الروحية والذهنية والذوقية والجسدية للمواطن..
2ـ ونتصور أن هذه النخب، بما فيها الحاكمة، لا تهتم بالتراث فقط باعتباره فولكلورا، بل تتجاوز بعض العناية بالتراث المعماري لاستجلاب السياح. يمكن أن نتصور أنها تعمل على جعل هذا المعمار موضوعا للدرس والاستفادة منه في البناء بتطوير مواده المتواضعة أو بالاستفادة من أنماطه.. وتتم الإفادة من التراث الثقافي، العالم والشعبي، سواء في الأدب والنقد أو التشريع والاجتهاد الفقهي، أو في الأعراف والعادات الإيجابية أو الموسيقى والغناء والفرجة.. على الأقل نحاكي ما تفعله الحكومات الأخرى في بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية..
3ـ يمكن أن نحلم مرة أخرى فنتصور أن هذه النخب يمكن أن تتجاوز تدبير الشأن الثقافي تدبيرا أمنيا، كما كان الأمر في تاريخنا الحديث والراهن، عبر جميع النخب التي تعاقبت على الحكم.. وأن تدبر هذا الشأن  بسياسة ثقافية تعتني أيضا بالثقافة الإبداعية والخلاقة بتشجيع الفنون والعمل على تطويرها وتوسيع نشرها وتداولها في كل المرافق عبر ورشات ومنتديات.. وتشجيع الفكر الفلسفي وباقي العلوم الإنسانية والاجتماعية... قصد التطبيع مع إعادة بناء الذهنيات والحس الجمالي والأذواق والوعي النقدي، وقصد المساهمة في التنمية الاقتصادية..
4ـ يشكل الإعلام عند كل الشعوب المعاصرة أهمية قصوى في بناء شخصية المواطن.. وإذا نحن وقفنا عند إعلامنا نجد أن دوره "التثقيفي" و"التربوي" أكبر بكثير من دور التعليم، لكنه دور جد سلبي.. فإذا تأملنا الأفلام، ووقفنا أمام المترجمة لاحظنا الرداءة على كافة المستويات، تشوه اللغة وتشوه الذوق وتلغي العقل.. وهي أفلام في حد ذاتها تسهم في الحط من ذوق المشاهد وفي نفس الوقت تسطح ذهنيته، لأنها تعتمد على حوار مبتذل وأحيانا على حوار لا يتوافق مع الصورة.. وحين نصل إلى جل الأفلام المغربية المهيمنة على قنواتنا نواجه ارتجالية واسعة سواء في الإخراج أو في التمثيل أو في غياب السيناريو والوعي بأهمية ودلالة الصورة، خاصة وأن الممثل يصبح كاتب سيناريو ومخرجا وممثلا أيضا فيها.. يمكن أن تكون الذريعة هي إن المشاهد المغربي يريد مثل تلك الأفلام، لا يمكن ذلك إلا إذا كانت هذه الإرادة مفروضة عليه، فهو يعيش استبداد الصورة التي تشوه شخصيته وتدمر ذوقه وأخلاقياته.. وما يقال عن الأفلام يقال عن جل باقي البرامج، إلا بعض الانفلاتات في البرامج السياسية.. والأغرب أن هناك جمعيات ومنتديات تنظم تظاهرات ثقافية لها أهمية قصوى، إلا أن وسائل الإعلام لكونها غارقة في رداءتها ومنشغلة باللقطات الإشهارية الكثيفة التي تسهم في تعميق الرداءة، لا تعنيها تلك التظاهرات الثقافية... إن دور الإعلام كما هو دور التعليم هو الرقي بالإنسان وليس مسايرة ذوقه والانحطاط به.
5ـ أشرنا في هذه الفقرات الأربع فقط إلى عينات من هذا التعامل النخبوي السياسي والرسمي مع الثقافي، قصد التنبيه فحسب، غير أن للنخبة المثقفة نفسها دورا في السياسة الثقافية ليس أقل أهمية من دور الحكومات، إذ عليها أن تتساءل عن هويتها ودورها.. فتعيد النظر في اشتغالها.. لتتبدى لها ضرورة ربط الثقافة بمجتمعها، كي تواجه أزمات أخرى اجتماعية وسياسية وتؤدي حتما إلى نهضة اقتصادية حقيقية.. وأن تنسج علاقات وطيدة مع السياسة ومع الإيديولوجيا إذ تسهم الإيديولوجيا في إعطاء الثقافة أشكالها.. فالإنسان يعيش في محيطه بثقافة، غير أن أشكال هذه الثقافة هي إيديولوجية، سواء في طرق استهلاكها أو في رمزيتها. ولابد أن تفرض الثقافة نفسها في الإعلام، كي تسهم في إعادة نشر القيم وتطوير الإنسان، باعتبار الإعلام هو أكثر الوسائط جماهيرية، فتستطيع تقليص الرداءة التي أضحت وباء في إعلامنا.
6ـ على النخبة التي تبدو ثقافتها حاليا شبه لقيطة في بعض وجوهها، أن تستقرئ تراثها النخبوي على الأقل خلال العصر الحديث الممتد من منتصف القرن 19 إلى السبعينيات من القرن 20، وتتأمل طبيعتها وأدوارها واختلافاتها وعلاقاتها بأهم المجالات الأخرى الحاسمة، كما عليها أن تستقرئ عمقها الشعبي الذي سيمدها بدماء جديدة تسهم في علاجها وإثرائها. لابد أن يقتنع مثقفونا بأن الثقافة هي أساس تأصيل كل إصلاح وتغيير في المجتمع، وإلا بقي هذا المجتمع عليلا..
7ـ ربطها بالثقافة الشعبية، تستوحي منها عمقها وتطورها لتتلاءم مع الواقع الكائن والممكن. إن الثقافة الشعبية الوطنية أغنى من أن تغض عنها الثقافة النخبوية الطرف. كون الثقافة الشعبية، وعلى رأسها الثقافة الأمازيغية، أفضل حالا من الثقافة النخبوية، على الأقل لأنها تدافع عن ذاتها بما تنطوي عليه من قيم إنسانية وأخلاقية وروحية وجماعية وإيديولوجية. وتدافع عن أصالتها، فيتداخل فيها القيمي الموروث والسياسي والإيديولوجي، وهي أيضا كثقافة ترفض أن تبقى مجرد فكلرة سياحية.. كما رفضت أن تكون بديلا لثقافة النخبة. وتفاعل الثقافتين إغناء للهوية الوطنية.
إن الهوية هي أول ما يتأثر بأزمة الثقافة، فتصبح هوية مجزأة بين الطائفية الدينية وبين الإثنيات، كل مجموعة تتمترس في دائرتها التي تعتبرها هويتها المغلقة، فتسود الخلافات والتشنجات وأنواع السلفيات والصدامات إلى درجة الترهيب. ولتجاوز الثقافة والمجتمع معا، لأزمتهما الهوياتية، لابد أن تدرك نخبه المختلفة أن الهوية متعددة ودينامية. فالمغرب إذا استوحينا تاريخه القديم والحديث وجدنا شخصيته مزيجا من الثقافات والحضارات القديمة والحديثة.. وهي هوية دينامية في كونها متفاعلة آخذة ومانحة، بشكل أفقي من مختلف الثقافات والحضارات، وبشكل عمودي على امتداد أكثر من ثلاثين قرنا. هذا هو النسيج الملون الذي نسج هوية البلاد وشخصيته. إن اختزال الهوية في عنصر واحد أو عنصرين، سواء كان اختزالا رسميا أو غير رسمي، هو انتقاص كبير من المكانة التاريخية والثقافية والحضارية للبلاد.. إن رصيد المغرب هو تاريخه وهويته في امتدادهما وتلويناتهما.. واختزال الهوية من أهم وجوه أزمة الثقافة والمجتمع.
9ـ ضرورة تلاحم أعضاء النخبة الثقافية في منتديات وجمعيات جهوية ووطنية ويدافعون جماعة عن المثقفين وعطاءاتهم ودورهم في المجتمع، ويعملون على فرض شراكات على قطاعات ومؤسسات رسمية وغير رسمية... لجعل الثقافة من أولويات النخب السياسية قصد الإسهام في علاج أمراض المجتمع الكثيرة والمتكاثرة..
10ـ اعتبار أنماط الثقافة كيانا واحدا متفاعل الأطراف والأدوار والآفاق، فيكون كل من الفلم والمسرح والموسيقى صدى لباقي فنون الأدب والعكس صحيح.
هو تشخيص عام واقتراحات أولية ربما تسهم في لملمة أطراف هذا الجسم الجزئي الذي هو الثقافة من أجل علاج أمراض وأحيانا أوبئة المجتمع.. هو رجاء لبداية تهييء الأجواء لنهضة ثقافية فاعلة، نهضة لا تغير وإنما تسهم في العلاج.. لا ترقى إلى نهضات أمريكا اللاتينية ولا الصينية..
أخيرا أختم بهذا الفقرة لنوال السعداوي سجلتها يوم 25/9/2014 في بكين حين التقت بأساتذة وطلبة صينيين، سألتهم كيف نجحوا في تحقيق النهضة والاستقلال: "قالوا: إنها الثورة الثقافية، لأن الثورة السياسية والاقتصادية، إن لم تدعمها ثورة تغيير القيم الموروثة فإنها تفشل وتصعد للحكم قوى أكثر استبدادا تقضي على الثورة والثوار، وأكدوا أن النظام الراسخ في التاريخ منذ العبودية يقف ضد الثورات الشعبية إن لم تصاحبها ثورات ثقافية تعليمية تضرب جذور القيم المتكلسة"[1]. ومن المؤكد أن الثورة الثقافية في الصين قامت بها النخب واستندت بمنهجها الموضوعي على الثقافة الشعبية نظفتها من الشوائب وطورتها، واستفادت من التجارب الإنسانية المناسبة..



[1] ـ عن مجلة اتحاد كتاب الانترنيت المغاربة، 26/9/2014.


التسميات :

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:


اخبار الأدب والثقافة

الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحريرــ الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحرير back to top