الأحد، 28 سبتمبر 2014

مبارك ربيع :عن المثقف والغياب

نشرت من طرف : ABDOUHAKKI  |  في  10:12 م

مبارك ربيع :عن المثقف والغياب
خاص بالمجلة
ربما لم يكن من الوارد قبل الآن، وفي فترات تاريخية سابقة، طرح سؤال يخص موقف المثقف وحضوره في الواقع وضمن سيرورة ما يجري، لا في مجتمعه فحسب، بل وفي العالم من حوله؛ بيد أن التساؤل لا يمس موقف المثقف فحسب،  صوته كلمته وقلمه،  وإنما يطال موقعه المطلوب ضمن الريادة والقيادة في مسارات الإصلاح والتغيير، ذاك الموقع المتسم بمرجعيته "الالتزامية" السارترية أو "العضوية "الغرامشية وما شابهها وشابها من طابع "الثورية الثقافية" في عصرنا الحديث، دون تجاهل طبعاً، للوائح المثقفين عبر التاريخ الإنساني عامة، ممن لاقوا نتيجة مواقفهم الفكرية وبعيداً عن شعارات عصرنا المدوية، ألوان الإنكار والتنكيل وحتى القتل، ناهيك عن تغييب نتاجهم الفكري بالتضييق والمنع، إن لم يكن مصيره الإعدام حرقاً.
وضمن كل ذلك، لا يمكن إنكار أثر الصدمات وخيبات الأمل الناتجة عن رهانات المثقف، عبر مواقفه الفكرية ومواقعه الفعلية ضمن تيارات التغيير، على نماذج ومثل، كان من شأنها أن تساقطت مخشبة جوفاء، أو انبثقت عنها أخرى خارج دائرة الرهان،  مع انهيار أنساق معرفية إديولوجية، قبل نظيرتها المجسمة المعمارية، علاوة على الثورات التكنولوجية السريعة المتتالية؛ كل ذلك من شأنه أن يدعو إلى المراجعة، وإلى تحليل جديد وفهم بآليات جدبدة مناسبة، بنت بيئتها المحلية والعالمية الجديدة؛ وهو ما قد يبدو منعكساً على الفعل الثقافي، بما يشبه ارتداداً أو استقالة من قبل المثقف عن دوره المعهود.
وارتباطاً بالمشهد الثقافي العام من منظور عصرنا دائماً، فإن الأمر يتعلق بعلاقة الثقافي بالسياسي، علاقة توثقت واستمرت بوجه خاص منذ منتصف القرن الماضي، بعوامل مختلفة، غذت هيمنة السياسي على الثقافي، لدرجة التداخل العضوي، إن لم نقل الاحتواء والتسخير، لصالح سياسي معين ـــ ضمن السياسي العام ـــ أصبح بمثابة "ماهية" محددة مسبقاً، لموقف وموقع المثقف؛ بيد أن مستجدات ومتغيرات عميقة، ليس أقلها تداعي أنساق إديولوجية سياسية، وتواري سوامق معرفية، شكلت وتشكل وقع الصدمة للمثقف، ومبعثاً لتجدد وعيه وسؤاله في اتجاهات ومستويات لم يطلها الوعي والسؤال من قبل،  كما أنها في الآن نفسه، حققت في حدود ـــ مهما تكن فهي محسوسة ـــ  فك الارتباط بين السياسي والثقافي، وأهم من ذلك فرضت مقابل "الوعي الثوري" ذاك، وعياً تأملياً تحليلياً، إن لم نقل تفكيكياً، لعله الجذر والأصل في مهمة المثقف، وما تتخذه من تجليات.
  يمكن القول إن المفتقد الثاوي وراء التساؤل عن غياب المثقف أو "استقالته" إزاء ما يجري في مجتمعه ومن حوله ، هو عن السياسي في الثقافي أو في المثقف، ولا ندري لماذا لا يطرح السؤال عن السياسي الذي افتقد أرضيته العميقة، جراء "غياب" الثقافي  والمثقف عن ساحته وما ترتب ويترتب عن ذلك؟ مهما يكن، فإن فك الارتباط عملياً أو رمزياً بين السياسي والثقافي، لا يعني التنافي مع الموقف والموقع معاً، إنما يعني وضوح الرؤية وإضفاء الشفافية: سياسي سياسي، ثقافي ثقافي، سياسي ثقافي ، ثقافي سياسي...
وعودة للسؤال: حول غياب المثقف إزاء التغيير؟ ربما يتطلب الأمر إعادة النظر في صوغ بروفيل المثقف، والتعرف على صورته في سماته العامة وضمن مستجدات عصره، ضمن صور كثير متداخلة حيناً ومتجاورة حيناً آخر: هناك المثقف السياسي بالمعنى العام، والمثقف الحزبي، والإعلامي، والأكاديمي، والإبداعي الأدبي والفني، وكذا المعرفي الخبير؛ ولم لا المثقف الداعية أو الدعوي، وغيره...؟
 لنعد مرة أخرى لدعوى أو ادعاء غياب المثقف، في نطاق الثقافي ـ الثقافي، أي المثقف خارج الموقع ـــ لا نقول الموقف ـــ السياسي، والمتمثل أساساً في الإنتاج الفكري الأدبي والفني، كما في الدراسات والبحوث الإنسانية، وفي الملتقيات والمؤتمرات الثقافية، ولنتأمل في أي اتجاه يصب ذلك كله؟ ولننظر إلى مختلف تلك الإنتاجات والفعاليات، إلى أي حد أن تساؤلاتها، مناهجها التحليلبة، آلياتها التفكيكية، أطاريحها، رؤاها وبدائلها بالصيغ المتبناة تركيبياً فكرياً وإبداعياً... تندرج أو تمتنع عما يصب في  اتجاه التغيير والإصلاح، إن لم نقل ما هو أكثر: اندراجها في باب توضيح الرؤية عن طريق النقد والتوعية والتنبيه.
ثم أحداث وتحولات قوية وعميقة، تجري الآن على امتداد البلاد العربية، سواء منها تلك التي مستها أحداث "الربيع العربي " مباشرة، أو بطريق غير مباشر، أو تلك التي لم تمسها في الظاهر على الأقل، إذ مهما يكن فالتأثير حاصل مؤكد وبكل قوة في جميع الأحوال، حتى وإن لم يؤت أكله في الحال، أو أتى بنتائج معكوسة، أو تبدو كذلك في الراهن على الأقل. وإننا لمن منطلق السؤال الاستنكاري المتعلق بغياب المثقف عن ساحة الأحداث، مسوقون من منظور معين، إلى أن ننسب ما جرى ويجري، إلى البعيد والقريب من نسيج أسباب، إلا الثقافي، مع تسليمنا في الآن نفسه، بأن معظم ما أنتجه وينتجه المثقف يندرج في باب المنشود من إصلاح وتغيير؛ وهو في رأينا ما لا تستقيم صياغته بمنطق: كل شئ قابل ليكون له أثر في الأحداث، إلا الفعل الثقافي بما فيه من علمي إنساني، وإبداعي أدبي وفني،   وما إليه بما فيه أيضاً من شعبي عفوي وأكاديمي منهجي؛ كما لا يستساغ منطق أن ما حدث ويحدث، ليس إلا وليد لحظته وابن آنه وذاته.
مهما يكن فلعل الحضور المقصود للمثقف في الأحداث، كما الغياب، لا يعني ما يتعلق بجوهره الثقافي، صوته، كلمته، قلمه، ووظيفته النقدية، بقدر ما يعني جوانب أخرى، لعلها أيسر وأقوى ما تكون في غيره.   
وعلى كل، يبدو من الضروري أن ننبه إلى المحظور في كل ما سبق، وهو المتمثل فيما يلي:
 ـــ فكر المثقف من حيث هو مثقف، وكذا المبدع والفنان من حيث هو كذلك، لا يرتبط على وجه الحصر والضرورة بالتوجه العام، بقدر ما يتسم بتصورات التجاوز وروافده، حفاظاً على الوظيفة الأساسية النقدية للمثقف والمبدع، وضماناً لما يغني الرؤى بالبدائل المميزة المتجددة؛ وفي التاريخ العام، قلما نجد مثقفاً بصفته هذه ـــ من افلاطون وقبله، مروراً بابن فرناس وابن تومرت إلى جول فيرن وماركس وبعدهم ـــ ينقل بدائله الفكرية وتصوراته إلى  أرض الواقع، بقدر ما نجد ذلك يتم عن طريق الغير، من الزعماء السياسيين أو العلماء المخترعين وحتى العسكريين، وذلك على نحو مباشر حيناً وبإلهام واستلهام حيناً آخر.
ـــ الثقافي  الفكري عامة، والإبداعي منه على وجه الخصوص، لا يستقي قيمته من جوهر انتمائه إلى هذا الجنس الثقافي أو ذاك، اعتماداً على ما يقوله أو يتضمنه ويحتويه، وإنما يكتسي ذلك  بنوعية الأداء وكيفية التجلي وصورته (لا صوريته).
 ـــ كل ما يصب في اتجاه تحديد قبلي أو بعدي للفكر والإبداع، يأتي نفياً للشرط الأساس في الفكر والإبداع: الحرية؛ وبالتالي يطرح السؤال: أعودة إلى مفاهيم "العضوي" و"الملتزم" و" الثوري" ...على نحو جديد؟ ...أو معكوس

التسميات :

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:


اخبار الأدب والثقافة

الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحريرــ الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحرير back to top