نخب تتحايل على الشعب.. لابتلاع
الدولة :أحمد إفزارن
خاص بالمجلة
عندنا أيضا، تقهقر في بعض
مؤسسات النخب..
نخب سياسية واقتصادية وثقافية
واجتماعية وغيرها، تحمل شحنات غير صحية، فأصبحت مجرد بهلوانات تسعى لإلهاء الناس بمواضيع
ثانوية وأحيانا تافهة، على حساب القضايا الرئيسية للمواطنين.
فباستثناء أصوات هنا وهناك،
انزلقت جل مؤسسات النخب إلى ترداد أن اللعبة الديمقراطية تتطلب كذا وكذا، لترسخ في
الأذهان أن مسؤولية النخب هي مجرد ممارسة اللعبة، ومن ثمة يقتصر دور ذوي الحقوق على
الفرجة..
ـ لعبة تقابلها فرجة. أين
هي المسؤولية؟
ومن مصطلحات النخب التي انحرفت
عن مسؤوليتها، تعبير يتكرر على ألسنة سياسية وهو: الطبقات، والتخفيف من معاناة المحتاجين..
إنها تكرس في الأذهان أن
الشعب ينقسم إلى طبقات، وأن من الطبيعي أن يقبل الناس تصنيفهم إلى طبقات، وكأن الأمر
ليس حقوقا، بل مجرد لعب في إطار الطبقية..
وهذه النخب تريد من المواطنين
أن يقبلوا الحال الذي هم عليه، لكي لا تسعى
هي ـ أي النخب ـ لأكثر من مجرد تخفيف معاناتهم.
هذه النخب تذهب بنا أبعد،
فتجعلنا نحن مسؤولين عن حالنا، وكأن ليست لنا حقوق لا على الدولة، ولا على نفس النخب.
وهكذا تمارس الإبعاد.. إبعاد
الناس عن حقوقهم، مع تبخيس هذه الحقوق من خلال تحديدها ـ هي ـ لسقف مطالبهم المشروعة.
وهكذا أيضا تحاول سحب البساط
من تحت أقدام المواطنين، لتصرخ هي نيابة عنهم، ولكن بإنزال سقف المطالب.
بهذا تمارس هذه النخب تواطؤها
ضد حقوق بنات وأبناء البلد.
وتتقاسم النخب الأدوار والمواقع،
وحتى التعابير والمصطلحات، وتحاول إتقان التحرك على مسرح الكلام، وإتقان لغة الجسد،
لتبليغ خطاب متنوع في أشكاله، موحد في أعماقه، وهو أن على الناس أن يقبلوا وضعهم، وأنهم
هم السبب فيه.
وتجد الجوقة النخبوية السلبية
من يوظف الدين لأغراض سياسية، لتوهيم الناس أن حقوقهم مضمونة، ولكن ليس هنا، بل في
الآخرة.
إننا اليوم أمام انفصام حاد
في هذه الشخصية النخبوية السلبية التي تتعامل بوجهين: أحدهما يخدم فئة معينة، والآخر
يتواطأ ضد حقوق الأغلبية الساحقة من الشعب.
فئة نخبوية فاسدة، تسيء لبقية
النخب الإيجابية الفاعلة..
فتراها تقدس الماضي، وكأن
الماضي ليست فيه أخطاء..
تقدسه على حساب الحاضر، وكأن
الحاضر لا يستحق أن ينهض..
وتزرع أحلاما للمستقبل على
غير أساس سليم.
وتكرر الدعوة إلى الالتزام
بالتقاليد، وكأن في التقاليد ما ليس منطقيا، وما ليس صالحا للعصر الذي نحن فيه.
هي تمارس أدوارا سلبية على مختلف الواجهات، لتمييع
نداءات صاعدة من هنا وهناك، تطالب بالنهضة الفعلية للبلد، لأن البناء الحقيقي لا يكون
إلا بسواعد مختلف الفعاليات، وليس مقتصرا على أطراف دون أخرى.
إنه الإقصاء والتهميش تمارسه
هذه الفئة الانتفاعية.
ثم يخرج من مؤسسات النخب
السياسية مسؤول يفرض فتاوي اقتصادية، وهنا بيت القصيد، منها عنوان غريب هو: عفا الله
عما سلف.
ـ هذه اللغة لا معنى لها
إلا الدعوة لحماية لصوص البلد.
لغة أصبحنا لا نسمعها فقط،
ولكن هي مفروضة علينا، ما دام من يطلقها هو مسؤول كبير في الحكومة.
ها هي النخب المتواطئة، تتنازل
حتى عن أبسط ما كانت تطالب به عندما كانت في يسمى بالمعارضة، وتجتهد في مطالبها فتقوم
بتقزيمها لدرجة أنها تخرق القانون أمام الخاص والعام، فتصدر مشروع قانون وتنشره في
الجريدة الرسمية، قبل عرضه على البرلمان.
وتعلن في التلفزيون أن هذا
القانون يبدأ تطبيقه من الآن.
هي تحسبه قانونا، وهو ليس
كذلك، بل مشروع قانون، ولن يكون قانونا إلا بعد مصادقة البرلمان، نفس البرلمان الذي
يلعب هو أيضا نفس اللعبة: لعبة التهريج، وتضييع الوقت، رغم أن الوقت في حياة البلد
ثمين جدا.
إن أي علاج للمرض الاقتصادي
والسياسي في البلاد يتطلب غربلة ما يسمى بالنخب، لتشجيع ما هو فيها صالح، ومحاسبة الطالحين..
وبوضوح، عندنا نخب ليست نخبا
بمفهوم الإخلاص للمصلحة العامة، بل هي تمارس لعبة المصالح، وتوازنات المصالح، ولا تخفي
أن هدفها هو الوصول إلى الحكم.
وبذلك تكشف عن كل الأوراق..
تردد بوضوح أن هدفها هو الكرسي.
وعندما تسأل أحدا من هؤلاء
النخبويين الضيقي الأفق، يجيبك أنه عندما يصل إلى الكرسي فسوف يطبق برنامجه السياسي.
وعندما تسأل عن هذا البرنامج،
تجده مجرد كلام منمق، وتراكيب فضفاضة، بدون أية خطة أو منهجية أو استراتيجية، أو أرقام
ومعلومات مضبوطة، وبدون رؤِية مستقبلية حقيقية، وليست مربوطة بسقف إنجاز.
وهذا ما يفسر حالة الارتجالية
التي تطغى على القرارات التي تقف وراءها نخب ما هي بالنخب، ولكن مجرد تكتلات فاسدة.
إن مكمن الخطر الذي يتهدد
بلدنا موجود في صلب جل الأحزاب والنقابات وجل مؤسسات المجتمع المدني.
أجل، وصل الفيروس إلى المجتمع
المدني من أوسع أبوابه الحزبية: فهذه جمعيات تتلقى دعما بلا حدود، مقابل لا مردودية،
وإذا كانت لها مردودية فهي مجرد حشد من أجل تنويم.. وهذه الجمعيات مدعومة على حساب
أخريات تهدف بالفعل للمساهمة في تنمية البلد، اقتصاديا، ثقافيا، علميا، ووووو...
ـ يجب إعادة النظر في تشكيلات
نخبوية مهترئة فاسدة.
وإذا بقي الحال على ما هو
عليه، فلا أحد يستطيع أن يستقرئ الغد، خاصة وأن هذه الفئويات لم تؤطر لهذا الغد عقولا
وقلوبا وضمائر قادرة على الإنجاز السليم.. وهي لا تشتغل إلا في تقريب من يشاركها نفس العقلية ونفس السلوك، وإقصاء
وتهميش من يريد بالفعل خيرا للبلد.
صراعات
ونجد في العلاقات بين جل
النخب صراعات عميقة حول مصالح شخصية..
وفي هذا السياق تطغى السياسية
على زميلاتها الثقافية والاجتماعية وغيرها.
طغت السياسة بتلاوينها على
الثقافة والفكر والعلم وكل ما هو عقل وفن وذوق، وتنشط في كل ما هو حشد، من خلال مهرجانات
في داخلها تنشيط اجتماعي وفي عمقها توجيه عمومي لخدمة أهداف سياسية.
هكذا هي أيضا في علاقاتها
مع بقية النخب المتواجدة في الساحة الاجتماعية، وهي تريد منها أن تكون ذراعا خفيا لأغراضها
السياسية.
وهذا يعني أنها ابتعدت عن
رسالة التشارك والتكامل الهادف لبناء البلد.
مسألة التشارك والتعاون تبقى
مجرد شعار من شعاراتها المظهرية، وفي العمق هي تشتغل من أجل مصالح ذاتية، ولكن بنهج
طريق معين خاص، لأن كل حزب يسير في اتجاه معين، ويلتقي مع بقية الأحزاب في مفاهيم مشتركة،
وكلها عبارة عن توجيه للرأي العام بأفكار وأوهام، أي تضليله بأهداف تنويمية.
وفي هذا السياق نجد الأحزاب
متفقة في العمق على تكريس الطبقية، وتكريس تجميع الثروة والسلطة والبرلمان والجماعات
وغيرها في قبضة فئة محدودة، وإقصاء وتهميش بقية الفعاليات التي تنادي بضرورة تغيير
هذه العقلية الإقصائية.
وإلى الآن ما زال الصراع
متعدد الاتجاهات، ومنه صراع بين ما يسمى بالتقليد والحداثة. وصار الطرفان ينتجان صراعات
هنا وهناك، ونقاشات بعيدة عن مصالح الناس، وهي لا تهدف إلا لضبط الكراسي، كي لا يصلها
من يريدون بالفعل خدمة البلد.
ويبقى التساؤل: هل ينتج البلد
للمستقبل نخبا جديدة بتصورات تتمحور حول مصالح الناس؟
الحل هو نهج الديمقراطية
الحقيقية، والابتعاد بصفة قطعية عن شراء الأصوات، واستغلال الدين، وغيرها من السلوكات
السلبية التي توارثتها النخب السياسية من الاستقلال إلى الآن، وما زالت مصرة على استمرار
توريث عقليتها السلبية المصلحية لأبنائها وبناتها والمقربين والزبناء، بهدف إبقاء نخبها
تلعب نفس الدور الذي واظبت على القيام به عبر عقود من الزمن، أي أن تبقى في ظاهرها
نخبا سياسية، وفي عمقها مجرد تكتلات مصلحية.
وأين المجتمع؟
جل النخب السياسية تعمل من
أجل أن يبقى المجتمع مجرد متفرج، وأن يظل مفهوم التشارك مجرد شعار.
وهذا الإقصاء الذي تشتغل
من أجل تكريسه جل مؤسسات النخب السياسية، يمكن أن يؤدي مع الأيام إلى مظاهر تتعارض
مع السلم الاجتماعي.
لا بد من عقلية جديدة في
النخب السياسية، قوامها مصلحة البلد، لا المصالح الذاتية.
هي تستطيع لو أرادت أن تطبق
قانون مكافحة الرشوة ـ مثلا ـ باعتبار أحزابها
هي المتناوبة على الحكم من الاستقلال إلى الآن..
هي تستطيع، لكنها لا تريد.
والبلد بحاجة إلى عقلية أخرى،
إلى دم جديد، إلى ضمير، إلى تطليق سياسة المصالح الحزبية الضيقة.
أحزابنا اقترفت جرائم سياسية
واقتصادية واجتماعية وثقافية وتعليمية وصحية، فكبلت مؤسسات الدولة، ومنعت المرأة من
حقوقها الإنسانية، وحرمت الأجيال الصاعدة من حقها في بلد غير ملوث، بلد فيه هواء سياسي
نقي هادف للمصلحة العامة.
أحزابنا تحولت إلى مجرد تشكيلات
عنصرية، أنانية.
وحتى من يستغلون الدين لأغراض
سياسية، لا يستطيعون اليوم حشد الناس حول استراتيجية سياسية. فإذا زالت منهم اللغة
الدينية، انهارت من ألسنتهم اللغة السياسية. لماذا؟ لأن هؤلاء أصلا بدون استراتيجية،
بدون خطة قابلة للتطبيق، قابلة للإقناع.
وقد أبانت التجربة أنهم جاهلون
في السياسة، ويتعاملون مع ملفات العصر بلغة أكل الدهر عليها وشرب..
ويتعاملون مع أصحاب الرأي
الآخر بأساليب اتهامية، تخلو من لباقة الحديث، واحترام الرأي الآخر..
وصارت كل أحزاب الضلال تجنح
في خطاباتها إلى توظيف الدين، جاهلة أو متجاهلة أن الدين ليس حكرا على أحد..
وكثرت جوقة المتلاعبين بالدين،
والدين منهم برئ.
ـ فكفى من الشعارات.. والعبث
بمشاعر الناس.. وتضليل الرأي العام.. والكذب على المواطنين بتقديم وعود غير قابلة للتنفيذ.
إن بلدنا قد دخل في عصر آخر،
هو عصر العمل، لا عصر الكلام.
ولا مكان لقوالين غير فعالين..
وأحزابنا لم تستوعب أن المغرب
فيه طاقة أخرى، عقلية أخرى في طور الصعود.
هي ما زالت تتعامل مع الشعب
كأنه مجرد متفرج على لعبة كراكيز، أبطالها هم هؤلاء العابثون بمصالح البلد، المتكالبون
على كعكة الكراسي.
لا يهمهم الناس..
تهمهم الكراسي فقط..
المغرب يبحث عن أفكار جديدة
بناءة من كل الأحزاب، لكن أكثرها بدون أفكار، بدون عقل.. ما زالت مجرد وكالات عقارية..
وإذا كان لها بعض العقل، فهو بكل تأكيد فارغ، بمفهوم الفراغ الذي لا ينتج إلا سلبيات.
يجب إنشاء أحزاب بديلة: شابة،
غير موجهة، مقتنعة بالوطن، ولاؤها التام للوطن، أحزاب تسير مع البلد في اتجاه المستقبل،
لتكون لبلدنا أوراش أخرى بموازاة مع الأوراش الكبرى التي يتم إنجازها حاليا على الأرض..
المغرب بحاجة إلى أوراش العقل،
أي العلم والمعرفة والثقافة وكل ما هو إبداع..
إن أحزابنا هذه لم تتخل بعد
عن خلفياتها القبلية والعنصرية والزبونية والمصلحية.. ما زالت تمارس التضليل، فتناقش
القضايا الحساسة الخطيرة، بعقلية جد متخلفة، عقلية لا يمكن أن تنتج إلا وبالا.
فبلادنا تسير في اتجاه، من
خلال أوراش ميدانية كبرى، وأحزابنا تسير في اتجاه معاكس: لا تنتج أفكارا جديدة لمسيرة
البلد، وحقوق أبناء وبنات البلد.
أحزابنا في حالة عقم..
في حالة شلل..
لا تعرف إلا التحايل على
الشعب، والتناور لاختطاف وابتلاع مؤسسات الدولة..
وهي أصلا بدون قواعد شعبية
كافية.
وهي أعرف من غيرها أنها مجرد
أحزاب صورية: هذه تستغل الدين، تلك تستغل الفقر والجهل، أخرى تستغل القبلية، عاشرة
ما زالت تحلم بكارل مارس، أخرى ما زالت تنشد الاستقلال، الخ... إنها أوركسترا حزبية
فيها الطبال والغياط وتاجر المخدرات، وغيرهم ممن لا يملكون لا عقلا ولا ضميرا.
الشلل
وفي خضم هذا الشلل النخبوي،
وبالنظر إلى الحراك الصارخ في أوساط المجتمع، يمكن القول: إن جل النخب الحالية عاجزة
عن القيام بمسؤوليتها التأطيرية والتثقيفية والتوعوية، وبتعبير آخر هي مصابة بطاعون
الشلل.
فما العمل؟
لا خيار لنا إلا التفاؤل.
والمجتمع المغربي قادر على
خلق نخب سياسية بديلة. فعندنا بكل تأكيد عقلاء، حكماء يستطيعون المساهمة في حماية كل
المكتسبات الوطنية، ومعها المساهمة في توسيع دائرة الأوراش الكبرى القائمة بمختلف ربوع
البلد.
بلدنا بحاجة إلى الجميع..
ويدا في يد، وعقلا مع عقل،
نستطيع معا أن نبني نخبا جديدة في مستوى طموحات بلدنا.. المغرب بحاجة إلى كل السواعد،
وكل العقول..
بحاجة إلى نخب حقيقية، لا
نخب منفوخ فيها.
المنفوخ فيه قد يكون مفيدا
لنفسه، في حدود التكالب على كعكة، ولكن بكل تأكيد هو مسيء لكل البلد.
المنفوخ فيه لا يتسم ببعد
نظر..
هو كالفأر لا يرى إلا ما
هو أمام أنفه..
ليست له قدرة استقرائية فعلية
للمستقبل..
وما يقوم به الآن، هو مجرد
تمييع للحقائق، والديمقراطية، والتعليم والشغل والحقوق وغيرها...
التمييع: هذا ما تمارسه جل
مؤسسات النخب، وتسربه في شكل جرثومي إلى باقي النخب، كي تضيع الحقائق، ومعها تضيع الحقوق.
ولا مستقبل لكل النخب الصورية..
ولا مكان لها في مغرب متحرك..
لا مكان لها في المغرب الجديد..
أحمد إفزارن
ifzahmed66@gmail.com
0 التعليقات: