الأحد، 28 سبتمبر 2014

سعيدة تاقي :كاتبة و روائية

نشرت من طرف : ABDOUHAKKI  |  في  9:47 م

سعيدة تاقي :كاتبة و روائية
خاص بالمجلة
هل مازالت هناك جدوى لدور النخب في المجتمعات العربية ؟ فقد كشفت الانتفاضات والثورات العربية منذ ثلاث سنوات عن خفوت إن لم نقل عن صمت مريب وأحيانا عن تواطؤ ماكر و ضليع لبعض النخب السياسية والمثقفة في إجهاض مشروع التغيير الديموقراطي الحقيقي ضد كيانات الاستبداد والإفساد في الوطن العربي ... ولآن جل النخب على اختلاف مشاربها وتوجهاتها السياسية والثقافية والفكرية والمجتمع⁄ مدنية قد أخلفت موعدها مع هذه اللحظة العربية التاريخية الحاسمة بشكل عام . نطرح هذين السؤالين الإشكاليين:
ـــ هل مازالت هناك جدوى لدور النخب السياسية والمثقفة في المجتمعات العربية
يجب في البدء التأسيس الجاد للنقاش، كي لا يتحول إلى مجرد سجال متضخم تتداخل فيه الأطراف و الأطياف دون تقدُّم نحو الأمام. و لا يمكن التأسيس الجاد دون إعادة التأمل في ثلاثة مستويات، يثيرها ضمنيا السؤال المطروح.
أولاً إن الجَمْع بين النخب السياسية و النخب المثقفة جمْعٌ لا يستقيم. ليس من منظور جَـمْع الكل إلى الجزء، فحسب و إنما من منظور يطمح إلى التغيير و ليس إلى الإصلاح. إن معادلة العمل من الداخل و هي منظور النخب السياسية سواء من باب المشاركة بالولاء أو المساهمة باسم المعارضة، لا تشبه في شيء العمل من الخارج و هو منظور النخب المثقفة عموماً دون انتماء حزبي أو مؤسساتي. و هي نخب لا تنشغل بالتدخل المباشر في العمل السياسي، بل تحرص على رهان بناء الإنسان و إعلاء القيم السامية، و تشييد الفكر المتحرِّر من قيود الواقع و إكراهات السلطة السائدة و مصالح استبدادها.
ثانياً لا تتحدد الأدوار التاريخية من وعي لحظة واحدة، بل بفضل التراكم. لا شك أن تكسير جدار الصمت قصد الانطلاق الفعلي في البناء الديموقراطي، لم يكن نتيجة لحظة إحراق البوعزيزي لنفسه، أو ما أشعله ذلك الفعل من انتفاضات شَـبَّتْ في امتدادات الشارع في دول متعددة. ففعل اليقظة مقابل السبات، أو الاندفاع ضد الجمود، أو الانتفاض بدل الاستسلام أو التحرر في وجه الاستبداد، ليس مَقطَعاً زمنيا أفقيا معزولاً عن العمق العمودي لـمَـفاصل التاريخ. فالحاضر في لحظته له ماضٍ قد شيَّد تفاصيلَه، أو تخيَّلها أو حلم بها، حين كان ذلك الحاضر في عرف الماضي أطياف مستقبل يُستشرَف.
و لا تخضع الجدوى لحساب آلي يقيسها و يضبط إيقاعها على معيار مسبق.. ففي ضوء هذا الاحتمال الافتراضي سيكون بإمكان الأجهزة الاستخباراتية أن تُجهِز على كل أفكار التحرر أو التغيير أو الحلم أو الطموح، رغم أن الواقع المعيش في مجتمعاتنا على كل الأصعدة، يقول إنها تشتغل في صمت و بمثابرة، لإحباط أحلام التغيير و اجتثاث أفكاره من صدور الثوار و الحالمين.
ثالثاً إن مجتمعاتنا لا تختلف في سيرورة تطورها عن سيرورة التطور، التي عرفتها كل  المجتمعات التي تجني اليوم ثمار إقرار الديموقراطية و حقوق الإنسان. و من هنا فمسار مواجهة الاستبداد و الشطط في استعمال السلط و احتكار الأموال و موارد الحياة، هو ذاته رغم التباينات التاريخية و الجغرافية..
لكن واقع الحال يقول: إن أخْذَ تلك المجتمعات بأسباب التحرر و التغيير منذ أجيال، قد نجح في تحقيقها للعدالة و المساواة و التقدم، مثلما نجح في انتقالها إلى قيادة الركب الحضاري، بعد نجاحها في بناء الإنسان المُنتِج، بينما أخْذُ مجتمعاتنا بأسباب التحرر و التغيير لم يؤتي أُكْله بعد، رغم سيول الدم المراقة في كل بقاعنا، و حجم التردي الذي تشهده مجالات الحياة من الناحية الاجتماعية و الاقتصادية و الأمنية و غيرها. هنا سيتدخَّل المنطق بدروس البديهيات ليضفي على معادلة "الجدوى" التي تبدو غير مأمونة المَداخل و المَخارج، مبدأ الثالث المرفوع. فلا يمكن أن نحرص كل الحرص أوَّلاً على أن نكون "نحن" بكامل خصوصياتنا التي ندرك جيداً ميزاتها و أعطابها، و أن نطمح كل الطموح ثانياً إلى تحقيق ما حقَّقوه "هُم" فكريا و سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا.
بأعطابنا التي تعيق بناء الإنسان المتصالَح مع ذاته، و القادر على التفكير المتحرِّر من كل أشكال الوصاية، لا يمكن لأسباب التغيير أن تجد الأصداء الملائمة لأحلامها و مطامحها، في بنية مجتمع مازال يؤمن بالخرافة و يقدِّس القادة، و يتفشى فيه الفقر الكافر اجتماعيا و فكريا، و يحتكر ساستُه و سِيَاسِيُوه البر و البحر و الجو، و يحاصر الإحباطُ و الفشل شبابَه من كل ناحية.
يمكن القول ارتباطا بالمستويات الثلاثة؛ إن المثقف سيمتلك دوماً بفعل هويته "التَـفَـكُّرية"، منابع الرؤية النظرية و الخبرة التحليلية ليسائل الواقع في ركوده أو في تغيره، و ليقدم مقترحاته . فالمثقف كائن ينتـمي إلى واقع مجتمعه، لكنه يتقـدّمه بالفكر و المعرفة و بعد النظر. و الحاجة إلى المثقفين ستظل قائمة و ملِّحـة، لأن ما عاشته تلك الانتفاضات من قدرة على التفـكير في التحرر و التحرير، و من طموح إلى تفعيل التغيير بإسقاط كل أشكال الفـساد و الاستبداد و الإفساد، إنما ينبع عن حصيلة الوعي الذي شكَّلته نخبة المثقفين عبر أجيال.
ـــ في ظل هذا المستجد العربي من في رأيك سيكون قادرا في المستقبل على القيام بهذا الدور التثقيفي و التوعوي و التأطيري الجماهيري ، أم مازال باستطاعة نخبنا استرداد مكانتها ودورها التاريخي الهادف والملتزم بقضايا المجتمع ؟
أعتقد في ضوء كل ما سلف، أن الهَمَّ الذي يحق أو يجب علينا الانشغال به حاليا و باستعجال، ليس ترويض المثقفين وفق الأنماط التي نرتضيها لهم، و ليس  استدراج النُّخب نحو الجري خلف هتافات الشوارع، و إنّما التفكير الجاد في تحصين أحلام التغيير من الدفن و الإقبار. إن التحليل الهادئ للحظة الانتفاض التي استغرقت ثلاث سنوات (و هي مجرد لحظة في قياس نضال الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية و الكرامة و الحياة)، لا يمكن إنتاجه بحياد، فالقُرب يُـلبِس التصورات بمناحي ذاتية مُغرِقة في المَواقع و الخلفيات و المصالح..
لكن ما قد أرستْه تلك اللحظة من وعي بقوة الشباب في الحلم و التخطيط و العمل من أجل التغيير، قد أصبح واقعا راسخاً. يدركه المثقف و السياسي و المواطن، و يفعِّل كل منهم مُكتسَباته و مَكاسِبه في ضوء هذا المستجد. فمثلما ستشحذ النخب المثقفة جهدها لصالح التغيير و التوعية و التأطير و التأثير، إيمانا ثابتاً منها بطاقات الشباب المتجدِّدة و قدرة الطامحين إلى التغيير على الفعل، ستشحذ الأجهزة الاستخباراتية مواردها للاستباق و تسييج كل الأفكار و الأحلام و النوايا، بفضل التكنولوجيات التي تلاحقها لدعم مصالح الأنظمة الحاكمة و للدفاع عن استمرار استبدادها بكل السلط دون مساءلة. و يبقى الفصلُ للمواطن الإنسان، الذي لم تزوِّدْه سنوات التعليم و الشهادات الأكاديمية من الاستقلال بفكْر يمتلك ما يكفي من المناعة الذاتية، ضد أساليب التجهيل و التعمية و التعبئة، و لم تحْمه الفلسفة التربوية، و في عمقها السياساتُ التربوية، من تدجين مسبَق يشكِّل الإنسان على مَقاس ما ترغبه الأنظمة المتحكِّمة.. فكيف الحال بمجتمع تغلب على فئاته الواسعة الأميةُ و الجهل و الفقر، و يقضي على سعيه البسيط من أجل لقمة العيش المغمورة بالعرق، غيابُ الأمن و الاستقرار؟.
إن وعي ذلك الإنسان الكادح البسيط بلعبة السياسة و بمعادلات الحياة و الحرية و الكرامة و المسؤولية و الاستقرار و التغيير، هي التي ستحدث الفرق في بناء الغد الذي نرغبه لأبنائنا.. و لا أظن أن إمكان التغيير سيتحقق بعيداً عن عطاء المفكِّرين و المثقفين.
المثقف في كل محطات التاريخ كان موضع تشكيك أو مراقبة أو تضييق أو قمع.. يعاديه الحكّام، لما ينشره من بذور للتغيير لا تناسب مصالح سيادتهم واستبدادهم. أو يستميلونه إلى ركابهم بالترغيب أو بالترهيب. و ترتاب منه الـعامة لمخالفته لأعرافها و لعادات تفكيرها. المثقف رغم عطائه و صموده، لم يكن موضع إجماع، و سيظل كذلك.


التسميات :

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:


اخبار الأدب والثقافة

الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحريرــ الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحرير back to top