الدكتور أحمد الطلحي
باحث في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية
خاص بالمجلة
أولا وقبل الجواب على السؤالين أود أن أغني أرضية
النقاش ببعض المعطيات والأفكار.
المعطى الأول: أن الثورات لا تحدث بين عشية وضحاها
ولا تنتهي نجاحا أو إخفاقا في مدة محدودة، فجل الثورات التي عرفتها البشرية عمرت لسنين
طويلة، بل هناك ما يعرف بالموجات الثورية، فتكون الموجة الأولى ثم يقع الارتداد عليها
من قبل ما يعرف بالثورات المضادة، ثم تعود الثورات الأصيلة للانتصار ثانية، وقد تعاد
الدورة لأكثر من مرة. حدث هذا في الثورات الأوربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع
عشر. لذلك فثورات الربيع العربي ستبقى مستمرة لسنوات عديدة.
المعطى الثاني: أن الثورات كالعدوى عندما تصيب دولة
ما تنطلق شرارتها إلى كل دول الإقليم، حدث هذا في أوروبا الغربية بعد الثورة الفرنسية،
ثم في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. لذلك فثورات الربيع العربي ستنتشر في معظم
الأقطار العربية، بما فيها الأقطار التي تتزعم وتقود الثورة المضادة.
المعطى الثالث: أن النخب لا تكون دائما ظاهرة ومعروفة
للعموم، فهناك نسبة كبيرة من النخب التي تعمل في الظل إما باختيار منها أو بتجاهل من
وسائل الإعلام المختلفة لنشاطها وديناميتها. وهذه النخب هي التي تصنع الحدث وتغير مجرى
التاريخ. وبالتالي فإن النخب العربية وبسبب سيادة مناخ الاستبداد والقمع هي كجبل الجليد
الذي لا يظهر منه على السطح إلا عشرة بالمائة.
وجوابا على السؤال الأول "هل مازالت هناك جدوى
لدور النخب السياسية والمثقفة في المجتمعات العربية ؟". أولا وحسب صيغة السؤال
وحسب الواقع العربي فعلا النخب السياسية والمثقفة هي بالجمع وليس بالمفرد (نخبة)، والجمع
يفيد التعدد والتعدد يعني التنوع يعني الاختلاف التي هي سنة من سنن الله في المجتمعات
البشرية، قال تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين،
إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين"(هود:118-119).
على أن التعدد والتنوع والاختلاف يكون إيجابيا إذا كان هدفه بلوغ الحق والصواب وإذا
كان في إطار الوحدة، فهو حينئذ يكون اختلاف رحمة كما يقال (هذه مقولة وليست حديثا نبويا
كما هو شائع بين الناس). أما واقع الأمة العربية فهو عكس ذلك، فلا وجود لاختلاف التنوع
في الرأي وإنما السائد هو اختلاف التضاد، بمعنى غياب أية أرضية مشتركة للفرقاء ولفصائل
النخبة، بل هناك تعمد وإصرار على اتخاذ الآراء والمواقف المتنافية والمضادة والمعاكسة
بنسبة مائة بالمائة لما لدى الآخر. والسبب في ذلك يرجع في رأيي إلى عاملين:
العامل الأول: الاختلاف الهوياتي
ففي العالم العربي والإسلامي بعد التحرر الشكل من
قبضة الاستعمار الغربي، لم يعد هناك إجماع على هوية واحدة، فهناك من لا يزال متشبثا
بالهوية العربية والإسلامية وبخصوصيات هذه الهوية، وهناك من يقول بالهوية الكونية الإنسانية
التي يغلب عليها الطابع الغربي. ثم بعد ذلك ظهرت دعوات لهويات فرعية على أساس قومي-إثني
(عرب، كرد، أمازيغ، زنوج...) وعلى أساس طائفي-مذهبي (مسلمون ونصارى، سنة وشيعة، سلفيون
ووسطيون...). والاختلاف الهوياتي هو أصعب خلاف لأن المختلفين لا يكون لهم مرجعية واحدة،
وبالتالي فإن الاحتكام الفكري يكون مستحيلا لأن المنطلقات تكون متناقضة في أغلب الأحيان.
وهذا الاختلاف الهوياتي لا نجده في العالم الغربي،
حيث تسود هوية واحدة ومرجعية واحدة حتى إذا اختلفت الإيديولوجيات والمذاهب الفكرية
والسياسية. وبالتالي لا يكون هناك فراق وخلاف دائم بين الفرقاء، وغالبا ما يكون هناك
اتفاق في النهاية، لأنه في الأصل هناك قواسم مشتركة.
العامل الثاني: الاختلاف المصلحي أو الاختلاف المزيف
فالنخب العربية حتى إذا كانت متفقة في قرارات ذواتها
إلا أنها تؤثر الإعلان عن الاختلاف وبالتالي الخلاف، لأنها تعتقد أنها إذا أفصحت عن
آرائها المتطابقة مع آراء الآخر ستقوي وتدعم موقفه وبالتالي ستخسر بعض النقاط من شعبيتها.
النخب العربية للأسف الشديد لا تؤمن إلا بالخلاف الصفري لأنها تتصور مخالفيها أو منافسيها
خصوما وأعداءا ينبغي القضاء عليهم. وهذا ما حصل في الشوط الثاني من الربيع العربي،
حيث تحالفت القوى الخاسرة في الانتخابات النزيهة -لأول مرة في الوطن العربي- مع من
ثارت عليهم الشعوب، مطبقة مبدأ "عدو عدوي صديقي" ومبدأ "إما أنا أو
لا أحد" وبالتالي "علي وعلى أعدائي"، ولكن الواقع هو أن جميع شركاء
الثورة خسروا لأنهم جميعا لم يستوعبوا قصة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
هذا إذا أحسنا الظن بالمرتدين على الثورة، وصنفناهم
فعلا في خانة الثوار. أما الرأي السائد في بعض الأقطار العربية أن هؤلاء لم يكونوا
قط ديمقراطيين ولا ثوريين، بل انتهازيين وصوليين، يتحالفون دائما مع الأقوى ومع من
يملك السلطة الحقيقية. وبالتالي فاختلافهم اختلاف مزيف ومنافق وكاذب. وأن أهم مكسب
للثورة أن افتضح أمرهم وتعروا تماما أمام الشعوب.
وخلاصة الأمر، فإن البقاء للأصلح ولمن هو صادق وصامد.
وهذا ما نلمسه في الثلة من النخب العربية التي لا تزال تؤمن بالتغيير وبشعارات الربيع
العربي، والتي لم تستسلم ولا تزال تقوم بأدوارها في التعبئة والتوعية والتأطير. والردة
على الربيع العربي هي بالعكس كانت مفيدة لأنها محصت صف النخب العربية وطهرت جسم الثورة
من الخونة والانتهازيين، وبالتالي ستعود الثورة قوية أكثر من بداياتها، وستكون الرؤية
واضحة للجميع للقيادات وللشباب ولعموم الشعوب العربية.
أما بالنسبة للسؤال الثاني: "من في رأيك سيكون قادرا في المستقبل على القيام
بهذا الدور التثقيفي والتوعوي الجماهيري ، أم مازال باستطاعة نخبنا المواطنة استرداد
مكانتها ودورها التاريخي الهادف والملتزم بقضايا المجتمع ؟"، فأظن أنه مما تقدم
من تحليل، خصوصا ما انتهى إليه من خلاصة، كافية للجواب على هذا السؤال.
0 التعليقات: