مدى
حيوية فكرة تفرغ المبدع والكاتب
أثارت مسألة تفرغ المبدع عموما جدلا واسعا
بين مؤيدين ومعارضين، فالمؤيدون يرون ضرورة تفرع المبدع شأنه شأن الباحث والرياضي والنقابي
حتى يستطيع القيام بدوره على أكمل وجه، والمعارضون يستدلون في رأيهم على وجود كتاب
كبار لم يستفيدوا من التفرغ، كنجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للآداب، والأسطورة
غابرييل غارسيا ماركيز وغيرهم كثير، ومع ذلك فقد أنتجوا كتبا غزيرة وعميقة.
إن السؤال المركزي الذي يطرح نفسه في حالتنا،
هل المبدع في حاجة إلى الجلوس في بيته من أجل الإبداع؟، أم أن الجمع بين العمل المأجور
والإبداع، وفي حالتنا الكتابة، يعد محفزا على الإبداع؟.
يفترض النظر إلى كل شيء بصورة نسبية. فعلى
الكاتب أن يشتغل مثله مثل كل الناس، ويراكم مادة الكتابة ويشحن بها مخيلته، إذا كانت
مادة الكتابة مرتبطة بالمعيش اليومي، مع إمكانية كتابة بعض الأفكار أو بعض التعابير
حتى لا تضيعها الذاكرة، ثم يأخذ تفرغا ليكتب كل شيء ويفرغ الشحنة التي امتلأ بها. هذا
يمكن أن ينطبق في رأيي على الروائيين وكتاب السرد عموما من قصة وغيرها لكن بصورة أقل
على الشعراء الذين يحتاجون إلى تفريغ شحناتهم في وقتها.
إن التفرغ موجود في عدد من المجالات، كمجالات
البحث العلمي والرياضة والنقابة وغيرها؛ ومن غير المعقول أن يستثنى من ذلك المبدع والكاتب،
لكن شرط وضع معايير دقيقة في الاختيار حتى يتم ضمان النتيجة.
إن فكرة تفريغ المبدعين من أجل التأمل والإنتاج
الثقافي، لتعد في حد ذاتها فكرة حيوية وأساسية، فأي مبدع أو كاتب يحتاج إلى وقت للتأمل
ووقت لكتابة أو إبداع ما يتأمله، منصرفا عن مشاكل وضغوطات الحياة اليومية، خاصة ضغوطات
العمل المأجور، التي لا تنتهي؛ ناهيك عن الضغوطات التي يجدها في طبع الكتاب وتوزيعه
أحيانا.
إلا أن دعم الكاتب بتفريغه من أجل الإنتاج
لا يجب أن يكون مطلقا، إذ يجب أن تحدد جهة ما من الدولة ثم جهة من المجتمع المدني المعني
بالموضوع، شروط مدة التفرغ وتقديرها وفق طبيعة العمل الذي سيقوم به المتفرغ.
بخصوص البحث الأكاديمي، فإن وزارة التعليم
العالي والبحث العلمي هي التي تحدد من يجب أن يأخذ التفرغ، كذلك الشأن بالنسبة للكتاب،
إذ يتعين أن ينظر في الأمر وزارة الثقافة بتشاور مع اتحاد كتاب المغرب وجمعيات المبدعين
الأخرى، (لأن الكتابة يمكن أن تكون بالقلم (أو الرقن على الحاسوب) كما يمكن أن تكون
بالتشكيل أو الموسيقى، لا فرق)، تجمع المشاريع الإبداعية وتنظر فيها، قبل أن تقرر تفريغ
المبدعين لمدد طويلة أو قصيرة، وبذلك سيتم ترشيد الموارد واحترام الإبداع نفسه.
هناك بعض البلدان التي تخصص منحة للأكاديمي
الذي يطلب التفرغ للبحث، كأن يتقاضى أجره زائد منحة خاصة لتحفيز الباحثين على البحث.
نفس الشيء يجب عمله مع المبدع والكاتب، إعطاؤه فترة تفرغ مدفوعة الأجر، لتخليصه من
ضغوطات البحث عن الخبز اليومي، ثم إضافة مكافأة له، على عمله أولا ولتحفيز الكتاب على
الكتابة، وبالتالي على القراءة، لأن كثرة القراءة تدفع حتما إلى التأمل والكتابة.
هناك من يعتبر أن الإبداع لا يكون حقيقيا إلا
إذا انبثق من أتون التجربة اليومية، ومن خلال المعايشة لكل المرارات العملية والحياتية.
كما أن الإبداع لا وقت له، إذ يمكن أن يأتي دون إنذار، كما يمكن لشخص أن يجهد نفسه
شهورا دون جدوى، وأنا متفقة على كل ذلك، لذا أقول بضرورة وضع قانون للتفرغ يتم فيه
الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المسألة، والعمل على إعطاء التفرغ للأشخاص الذين يتبين
أنهم في حاجة حقيقية لذلك، ليدبجوا ما تراكم في ذاكرتهم وفي مسوداتهم من تجارب ومواقف.
إن فكرة تفرغ الكاتب بالشروط المذكورة أعلاه،
أي أن يكتب انفعالاته مع اليومي بشكل منتظم في مسودات، وفي خضم ظروف حياته العادية
والعملية، على أن يكتبها بشكل منظم أكثر خلال التفرغ، هذا فضلا عن مجازاته بمنحة، تعد
فكرة جيدة جدا ونبيلة، سوف تخدم الثقافة والمبدع في ذات الآن، وتخرج هذا الأخير من
البؤس الذي مات فيه عدد من الكتاب المغاربة،
كمحمد الطوبي ومحمد زفزاف ومليكة مستظرف رحمهم الله. وإنجازُها ممكن في مجتمعنا،
تبقى المسألة مسألة إرادة سياسية تنبع من وعي حقيقي بأهمية العمل الثقافي والإبداعي
عموما.
0 التعليقات: