''التفرغ الإبداعي''..حلم المصالحة و أمل التصحيح..
«
فتعطيل نظرية ''الانتخاب الطبيعي'' نتيجة ظروف معينة يحرم أصحاب الحق من أن يصلوا إلى
المقاعد التي يستحقونها في ظل مجتمع لا يؤمن بالتعددية و لا يعطي فرصا متكافئة للأفراد
في ظل ظروف واحدة، بينما يعطيها للقادر على التسلق قبل غيره
(الرؤية الغائبةـ د. مصطفى الفقى)
يشبه التفرغ الابداعي عملية حفر في نقطة محدّدة دون كلل أو ملل أو تشتيت.
فانتظام هذه العملية و تتابعها من دون شك يُمكّن المنقب المجتهد من بلوغ فيض غامر نبت
في قحف رأسه ذات لحظة غيضا لا يكاد يروي ظمأ عصفور. في المقابل يشق عليه الانطلاق في
هذه الرحلة إذا أرخى قبضته أو وضع جانبا أدواته إلى حين انحسار المانع أو المُعطّل.
يختبر الكاتب الصراع في أقسى تجلياته و يصطلي بنيرانه أكثر من أي شخصية اعتبارية
أخرى في المجتمع، فهو من ناحية يجاهد لاكتشاف طبيعة شخصيته و تأكيد هويته كمبدع، و
إذ تتبدّى ملامحه الفنية الواعدة يشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه في إنتاج مادة
ثقافية و فكرية تحفظ له هذا الشعور بالأهمية كحاجة إنسانية لازمة لاستقراره النفسي.
و من ناحية أخرى يصطدم بمشهد ثقافي ملتبس و مداخل دعائية تحتفي بكل شيء و تخصص مساحات
كافية لعرض المنجز الابداعي في مجالات أخرى فيما يظل الكتاب و كاتبه خارج التغطية و
بعيدا عن دائرة اهتمام الوزارة الوصية. في مواجهة هذه الوضعيةـ المشكلة يصبح الكاتب
نفسه مؤسسة للإنتاج و النشر و التوزيع علّ نصوصه تقتنص بصيص نور بات سجين أقبية المركز
بكهنوته و طقوسه السرّية. يعاني الكاتب محاولا تحقيق أهدافه المتعددة و المرغوب فيها
فيسقط في غفلة منه في جبّ القلق المزمن فالاضطرابات السلوكية أو المشاكل الصحية كمتلازمة
أمراض ممتطي جياد الثقافة و الابداع. إننا نتحدث هنا عن أحسن الحالات حيث في قدرة الكاتب
تحقيق حلمه و طبع مؤلفه على نفقته الشخصية و خاصة في فترة البدايات و يقينا ليس يخفى
على أحد من المهتمين بالشأن الثقافي في عالمنا العربي أن شهداء الكلمة الصادقة و الابداع
الحقيقي كثيرون؛ بعضهم في الهامش و أغلبهم مجهولون..يموتون في صمت و عزلة كأبناء متخلى
عنهم و يُحرمون من ممارسة شرطهم الانساني الذي يتحقق من خلال عملية تواصلية صحية يكون
فيها الإرسال والاستقبال و أيضا الأخذ والعطاء بالتناوب و بانسجام فالإرسال بدون استقبال
أو تجاوب يؤدي إلى الاعتلال. إنها لمأساة في
الواقع أن يصبح الكاتب و المثقف ''حالة'' تتطلب تدخلا سريعا و نقلا فوريا إلى غرفة
العناية المركّزة و هو الابن الصالح الذي ما فتئ يعتز بوطنه و يحلم له بغد أفضل و مستقبل
زاهر. و الأفظع من ذلك طعنهم بحربة الاهمال في حضورهم ثم حملهم على الأكتاف و تجميل
قبورهم بورود العرفان بعد رحيلهم و كأن قدر المبدع و الأديب و الفنان أن يزرع لسنين
مديدة دأبا و أدبا ثم لا يفرح بتعب يديه و لا يتذوّق نتاج حقله! فهل هو قضاء محتوم
و لعنة لا مندوحة له عنها؟ ألا تحمل فكرة تمتيع الكتّاب و الأدباء بصفة ''التفرّغ''
في ثناياها عناصر التصحيح و التقويم لوضع ينزّ فوضى و أخطاء؟ متى يكون ''التفرغ الابداعي''
نعمة على الكاتب أو المثقف أو المبدع؟ و متى يرتدّ على صاحبه نقمة و كارثة ماحقة تُدمر
ما بنته السواعد لسنين و معه ربما متانة البناء و شرف و كرامة البنائين؟
نعود و نؤكّد كما في مقدمة هذه المحاولة
المتواضعة أن ''التفرّغ الإبداعي'' شرط ضروري لجريان نهر الابداع الدائم كماّ و نوعاً
و هذه السيرورة تعمل في الموهبة الأصيلة و التي تُعدّ في اعتقادي أساسا لهذا ''الإطارـ
الحلم'' و رأسمالا أوّليا لكل من قرّر دخول غمار تجربة التأليف لتأكيد موهبته و قدرته
على الاستثمار الرمزي في حقل من حقول الابداع و الجمال و لعلّ عامل الوقت و الزمن بالإضافة
إلى المنجز الابداعي للكاتب و قوة حضوره و فاعليته في المشهد الثقافي ستكون لها الكلمة
الفصل و الأخيرة في تقرير أهليته و جدارته بشرف الانتساب لهذا الإطار. و لاغرو أن تكتظ
الساحة بكتاب مغمورين في غياب مصفاة رزينة عادلة و كاشفة للغث من السمين و حافظة للذوق
السليم و موجّهة ذوي الموهبة القليلة في التأليف للقرار المكين الذي ترقد فيه فرادتهم
و مواردهم الغنية لاستثمارها في الحقل المخصّص لهم بدل التشويش و التضييق على صاحب
المساحة الحقيقية التي انتزعها عن استحقاق لأنه طول حقيقي و عرض حقيقي و هي النتيجة
الطبيعية لجداء هذين الحدّين أو البعدين! لكن هب أن كاتبا أو مثقفا اعتُرِف له بموهبته
و أصالة نتاجه و فاعليته في الميدان؛ ناهيك عن استيفائه لشروط توشيته بلقب ''كاتب متفرّغ''
تحدّدها الجهات المعنية بتنسيق مع مجالس أو مؤسسات ثقافية وطنية أمينة، و في نفس الوقت
تُرسم له تخوم لا يتعداها و مناطق محظورة مُسيّجة لا يحق له اكتشافها و ربما تتقدّمه
خارطة طريق بمفاتيح مقدّسة عليه فقط إدارتها في الاتجاه المُحدّد و التحرك وفق قنّها
السحري المُثبت حتى يكمل مسيرته الحياتية و يؤدي دوره في المجتمع في انسجام مع باقي
مقوّماته التاريخية و الحضارية و الفكرية. أليس هذا تحجيرا للمثقف و هدما لأساساته
بل مسخا مقصودا لدوره المحوري في تنوير الجماهير و الذود عن مصالح الطبقة المقهورة
في وطنه؟ أليس في ذلك انتهاكا صريحا لحريته في اكتشاف و إبداع بل خلق أساليب جديدة
للفعل و الحياة؟ ألا تستطيع الدولة أو المؤسسة توفير مساحات كافية للمثقف للتفكير والبحث
وفي ذات الوقت تجزل له الدعم و العطاء؟ أم يكون تمتيعا و تشريفا مشروطا على إيقاع المثل
المأثور: ''أنا من يُعطي بسخاء ويجود، لي الحق كل الحق أن أقود و أسود''! هنا يتجرع
المثقف مرارة الصراع المُركّز في محاولة منه لتقديم الولاء لأقانيم ثلاثة (الدولةـ
الجماهيرـ الضمير) يستحيل توحيدهم في جوهر خالص بل كلما سعى جاهدا لإرضائها يسقط في
لعنة ''الولاء المزدوج'' و ربما في شرك ''الحربائية''. ماذا يتبقى من المثقف عندما
يفقد خصوصيته؟ من يفك شفرة جيناته المعدّلة إذا فقد لونه الأثيل؟ من يُعيره سمعه و
اهتمامه و قد صار صوتا عاديا أفرغ من جرسه الأصيل؟
''التفرغ الإبداعي'' قاعدته الموهبة الثابتة المكينة، يرتفع صاحبها وينمو
عندما نحترم خصوصيته و فرادته كمثقف مبدع و نُزوّد محرّكات مصنعه بالموارد و الطاقة
اللازمة لاشتغاله مع ضمان العنصر الأساسي و الحاسم في هذه العملية: الحرية التي بدونها
لن يرى الوطن مجد تصنيع رؤية ثاقبة صائبة تُطلقه من غصص الماضي و ضيقات الحاضر إلى
رحابة الأفق و آمال المستقبل. فهل تقبل الدولة أو المؤسسة بهذا التحدي فتُصعد مثقفيها
من جبّ تسديد احتياجاتهم الأساسية و بخاصة المتعلقة بأمانهم الاقتصادي و من ثمة يقبلون
على مشاريعهم الابداعية في مختلف التخصصات و الحقول المعرفية لا يصرفهم عنها صارف مهما
يكن؟ هل تتسع رؤيتها لتشمل الهامش و مصانعه المعطّلة؟ أم تبقى رهينة حسابات ضيقة واختيارات
بسيطة سهلة حفاظا على أمنها الثقافي و حماية لنسقها الفكري و التراثي و الحضاري من
رياح التنوير الطاردة لظلمات القارات؟
0 التعليقات: