الخميس، 3 أكتوبر 2013

الشاعرالدكتورمحمد بودويك

نشرت من طرف : ABDOUHAKKI  |  في  9:19 م


سؤال التفرغ
قد يفهم من التفرغ، الفراغ، والتفريغ،: غسل اليد من المشاكل والأشياء، والنأي بالنفس عن الانشغالات، والإنهمامات أيا كان نوعها، وشكلها، وحجمها، ضآلتها أو اتساعها.
وقد يفهم منه حمل النفس على مباشرة مبتغى، ومطلوب، ومتوخى، ومسعى معين. ففي المبنى الصرفي- "تَفَرَّغَ" ما يفيد معنى : القهر النفسي، والقسوة على الذات من أجل أن تأتي شيئا، وتعانق مرغوبا. وربما، يقربنا هذا الفهم الأخير، هذا المنحى المطروق، هذا المعنى المصاقب للعمل والإعمال، والاندماج في شغل ما، مهنة أو حرفة أو خطاطة أو كتابة، من المطروح، أي من سؤال التفرغ الذي تستفتي المجلة فيه، ومن خلاله، جمعا من المثقفين والمثقفات، مختلفي المشارب والمرجعيات، متفاوتي الأعمال والإثمار، متعارضي الفُهُوم لجهة سؤال التفرغ إن بالإيجاب أو بالسلب. لم نشر إلى معنى المطاوعة في الفعل، فنحن رجحنا التحرج والتكلف ابتداء وانتهاء وهما من دلالات الميزان أيضا.
سأختصر الكلام، وأخرج من شرنقة الإبهام لأقول إنني مع وضد التفرغ في آن. معه إذا منح لشخص : (أنثى أو ذكر)، يحتاز مشروعا مفكرا فيه.. بَيِّنَ المنطلقات، واضح الأهداف، من شأنه أن يكون ذا قيمة مضافة، وزيادة نوعية لربوتوار الموجود العلمي والأدبي، والمتن المركوم، المعرفي والثقافي. أقول مُنِحَ ولا أقول مُتِّعَ، فالتفرغ مشقة ضَنْكى، وطلب مرير لا يستطيعها إلا ذو عزيمة فولاذية، وهمة حديد. إذ المنحة عطاء محسوب، متفق –ضمنيا- على إوالياته، ما يستوجب –بالحتم- الرد الإيجابي، والسمو إلى مستوى اللحظة والثقة، والانهمام بالتفرغ من حيث وجوب التفاعل معه، وتقديم حصيله / حصائله إلى الطرف المانح، في آجال محددة، ومواقيت مضبوطة، وزمنية متفق عليها، لا تعدو السنتين أو الثلاث، على أبعد تقدير. وكان التفرغ –ولا يزال- أحد المطالب "النقابية" لمنظمة اتحاد كتاب المغرب، على أن يفهم المطلب في حدود دائرة أعضاء الاتحاد، أي المنتسبين بالعضوية إلى المنظمة ما يعني أنه قُصِّرَ عليهم وحسب.
غير أن ما ينبغي التشديد عليه –في تقديري- في حال منح التفرغ، ووضع مسطرة قانونية له، وفق معايير معروفة، ومتداولة، لعل أهمها أن يكون: تقديم طالب التفرع لموضوعه مختزلا.. وقائما على مرتكزات ومدامك معرفية أو علمية، لا يرقى إليها الشك، ولا يداخلها الاهتزاز، أو ظل التكرار والمطروقية، والمطروحية في السوق من قبل. ما يعني –في كلمة واحدة-، أن يكون بكرا، ذا جِدّةٍ يَرْشَحُ بالإضافة والنوعية. وهذا يقتضي ويستوجب تشكيل لجنة علمية ذات مستوى رفيع، يحظى أعضاؤها بالصدقية العلمية، والمعرفة الواسعة، ويحظون بالذيوع والانتشار. إذ التفرغ من أجل إنجاز وإنتاج معرفي عام أو مخصوص، هو شأن علمي رفيع، وقرار موضوعي من لدن لجنة علمية –كما أسلفت- تنتدبها الوزارة الوصية –ولتكن وزارة الثقافة- كهيئة استشارية، تشير عليها بما ينبغي أن يكون وكيفيات أن يكون، حَذَرَ التيه، وَمَخَافَةَ الضلال، والسقوط في مستنقع الزبونية والإخوانية.
هل تركت مكانا فيما سطرت للتفرغ الإبداعي؟. هذا المكان مُسْتَقْرَأٌ ضِمْنًا، سوى أن التدقيق يحملني على تصفية أنواع الطلب الإبداعية من حيث الموضوع، والجنس، والثيمة. لِأَقُلْ مباشرة – من دون مداورة- أن رأيي يذهب إلى إقرار هذا الحق، "حق" التفرغ – للروائي، للذين ينشئون السرد البديع، ويبنون العوالم الروائية المنيفة، ذات الإضافة و"المشروعية الجنسية"، و"الصفة النوعية. ولا إخَال أن الشاعر يفكر في الوقوف على عتبة هذا الباب. فالشعر حالة نفسية، وإشراق، والتماع. قد يتمطى النص الشعري، فينقلب إلى مسرد عجيب غريب، وعالم تصويري أساس، يقوم على اللغة، وتوسيع حدقات المجاز، وصولا إلى المماهاة مع المحفل القصصي أو الروائي. ومع ذلك، فلا أرى موجبا لمنح هذا "الحق" للشعراء، وإلا تحول الشعر إلى خطاطة، وجب حشرها وحشوها بالشخوص والوقائع والتواريخ والميثولوجيات والجغرافيات، والسلالات، وغيرها. فمن كان قادرا على ذلك فليمنح التفرغ. لكننا نستثني الشعراء النقاد ،إذ الدراسة النقدية تكون مناط الجهد والإجهاد ، والمقايسات ، والمقابسات .
التفرغ حق إنساني، وَشَغَفٌ عِلْمِيٌّ ملحاح، والانهمام العلمي، والمعرفي والثقافي، يريد هذا الحق، ويرغب في مباشرته، وتصريفه من أجل وضع لبنة في الصرح الحضاري الإنساني العظيم، وتتويج مسارات التاريخ الآدمي، والوجود البشري، المتنامية. هو حق ما دام تُتَوَخَّى منه المساهمة في كشف الحجب، ورفع الأغطية عن أسرار النفس الإنسانية، وأسرار الكون الشاسع المتراحب، وأسرار ما به يسير الإنساني إلى الغد المطمئن، ويصير آدميا كامل الآدمية، يستحق تسميته، ويَنْجَدِرُ بصفته العليا كأحسن كائن، وأرفع مخلوق على وجه الأرض.
هو حق –أخيرا- في وجه تجهم الوظيفة / الجزمة التي تضرب القفا كل لحظة، وتأكل العمر القصير كل هنيهة، وانطفاء أويقات الزمن في الدواليب المعتمة، واليوميات الإدارية الكئيبة، علما أن كتابا كبارا، وشعراء أفذاذا، تركوا لنا أجمل الكتابات، وأبهى الأوصاف والرؤى، وذوب وجدانهم وأحزانهم وأحلامهم، من وسط زحمة اليومي، ومن داخل مكاتب ضيقة، بمثابة زنازين، وعلى رغم أنف وظائف، لا تليق بعبقريتهم وقاماتهم الكبيرة: أفكر -للتو- في إليوت، وكافكا، ووايلد، وإدغار آلان بو، وبِيسُوَّا وعباس محمود العقاد، وغيرهم.
محمد بودويك



التسميات :

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:


اخبار الأدب والثقافة

الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحريرــ الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحرير back to top