الأهم
قبل ذلك هو تقنين منظومة هذا التفرغ وتأطيرها تأطيراً قانونياً ومهنياً ملزماً
بداية
لا تبدو هناك علاقة عضوية، ولا رابط بين أي عرف أو شرط اصطلاحي خارجي، وبين الكاتب
والأديب من حيث طبيعة العمل الإبداعي، بمعنى أن اصطلاح التفرغ لا ضرورة له مبدئياً
ولا يشكل شرطاً في الإبداع، بل يبدو من خلال التاريخ والتطور أن العكس أكثر ملاءمة
لطبيعة العمل والدور الأدبي، ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك لنجد نماذج من روائع
الإنتاج الفني في الأدب وغيره، أنتجت في ظروف سيئة وقاسية على منتجيها، تبلغ حد
فقدان المبدع حريته المادية أو المعنوية أو هما معاً، دون أي يكون ذلك على حساب
القيمة الفنية والإنسانية للمنتوج الأدبي، وهو ما يعني أن للمعاناة بكافة
مستوياتها وأبعادها، سواء منها معاناة الذات أو الغير، دورها في صنع واكتمال فنية
العمل ونضج العبقرية المبدعة.
ليست
هذه دعوة باتجاه ما، ولا تمثل موقفاً لتبني ما يعارض شرط التفرغ أو أي منظومة
مشابهة، للمساعدة على الإنتاج الثقافي الأدبي والفني عامة، وإنما هو منظور مقتضيات
وقضايا مبدئية لا يمكن القفز عليها؛ وبوجه خاص، لا يمكن الاستناد على وجود شروط
اصطلاحية خارجية أو عدم وجودها، لأي تبرير أو تقييم على أساس ذلك.
من
هنا نرى عملياً، وتبعاً للتطور والتقدم المجتمعيين، وبخاصة في مجال مراعاة الحقوق، أن الأمم والمجتمعات ترتقي وتخلد بمكانة
مفكريها ومبدعيها، علاوة على الوعي المتنامي بأهمية العامل الثقافي عامة في
السيرورة التنموية... أن التفرغ اصطلاح مجتمعي يكتسي صفة عامل مساعد في النهوض
الثقافي، وهو عمل معمول به في كثير من المنظومات الثقافية في العالم، كما أن أشكاله
مختلفة، ويعتبر دعماً مادياً ومعنوياً للإنتاج الإبداعي الفكري، لا يختلف عما يولى
من مثل هذا الدعم بأشكال عديدة، للارتقاء بجودة
الإنتاجات والصناعات الوطنية إلى مستوى المنافسة، أو للحفاظ على قيمتها
أمام الطوارئ والظواهر السلبية... وكما في مجال الرياضة البدنية، مع اعتبار بعض
الفوارق والخصوصيات بين المجالات.
وهنا
نشير إلى أن إهمال الجانب الثقافي العام، يستند بالأساس إلى نظرة قاصرة تعتبره غير
منتج مادياً أي اقتصادياً، إن لم ينظر إليه كعبء على كاهل الدولة، وهو تصور خاطئ
مرتبط بحالة التخلف التي نعاني منها مثل كثير من المجتمعات المشابهة، بينما المجال
الثقافي على العموم، يمثل قطاعاً صناعياً إنتاجياً بامتياز، وله مردوده الاقتصادي،
كما أن له انعكاسات وتفاعلات مع قطاعات إنتاجية أخرى عديدة، علاوة على مردوديات متعددة
يمكن قياسها بمختلف المعايير المادية، حتى الذهبية منها وغير الذهبية.
ومن
المألوف أن ينصرف الذهن عند الحديث عن تفرغ الكتاب على هذا النحو، إلى المؤسسة
الوطنية العامة ممثلة في الدولة، من حيث مسؤوليتها في ذلك وضرورة تحملها الواجب
تبعاً لكل ذلك، وهو أمر مشروع ومبدئي أيضاً باعتبار أن الانتماء الذي يحمله الكاتب،
هو أولا وقبل كل شئ للوطن ومؤسسته العامة؛ بيد أن للهيئات المجتمعية المختلفة من
علمية وتجارية وصناعية وغيرها، وكذا الشخصيات بصفتها الفردية، دورها الجوهري في
عملية تفرغ الكاتب، سواء عن طريق التبرع والتطوع أو التكافل أو عن طريق التعاقد
وغير ذلك، وعلى سبيل المثال فدور النشر ورجالاتها، يأتون في مقدمة من لهم وعليهم
ذلك، سواء كمنظمات ثقافية أو بصفة فردية قائمة على التطوع أو المصلحة التعاقدية،
وهناك حالات عالمية عديدة معروفة في هذا المجال.
ولا
بأس من الإشارة في هذا الباب، إلى أن تصورات ومشاريع من نوع تفرغ الأدباء، لم تكن
غائبة أبداً لدى بعض مؤسساتنا الثقافية، ونذكر أن مؤسسة منتدى أصيلة طرحت وتطرح للتداول
والنقاش مشروعاً يقارب تصور "مدينة المبدعين"، وهو ما لا تعجز عنه همة الصديق
الأستاذ محمد بنعيسى، وكذلك الشأن مع اتحاد كتاب المغرب في محطات عديدة، كما أن
أستاذنا الراحل المؤسس محمد عزيز الحبابي رحمه الله، كان يحمل شعلة هذا الهم باكراً،
وكان نظره موجهاً إلى فضاء تيومليلن الأطلسي مجالا لذلك، كما كان النظر موجهاً إلى
فضاءات كنسية لم تعد مستعملة لوظيفتها الدينية الأصلية، من أجل أن تصبح فضاءات
ثقافية مكافئة لوظيفتها الأساسية الروحانية الإنسانية، وغير هادفة للربح بطبيعة
الحال؛ ومن المعلوم هنا أن الحديث عن تصور "التفرغ الإبداعي" لا يعني
مجرد إيجاد فضاء للعزلة وإنما له مقتضيات متكاملة.
من
الواضح أننا نميل إلى تثبيت التفرغ للكتابة، باعتباره حقاً ومطلباً يجب الدفاع عنه
خدمة للفكر والثقافة ببلدنا ومؤسساتنا التي قدمت صوراً ونماذج متميزة، في مجالات
اجتماعية وحقوقية عديدة، لكن الأهم قبل ذلك هو تقنين منظومة هذا التفرغ وتأطيرها
تأطيراً قانونياً ومهنياً ملزماً، يتم إنجازه باستشارات واسعة على مستويات عديدة،
يأتي في مقدمتها أهل الشأن من الكتاب، وكذا أهل القانون والتشريع، مع المقارنات
والمقاربات للتجارب العالمية المشابهة، حتى لا يغدو المجال عامل خلط وإفساد للحياة
الثقافية، أقله ظواهر التملق والزبونية والتكميم، وآخره التهافت والاسترخاص
والابتذال.
يبدو
في نهاية الأمر، أن أهم ما في الموضوع على كل وجوهه، هو حرية الكاتب واستقلاليته
وكرامته وإخلاصه للقيم الفنية، مهما كانت الأحوال والظروف.
0 التعليقات: