أبوالقاسم الشـــبري باحث في علوم الآثار والتراث
سؤال التفرغ هو سؤال إشكالي أرق وسيظل يؤرق الكتاب والأدباء والمبدعين والمثقفين عموما. مبدئيا لا يمكن للمرء إلا أن يكون مع تمتيع الكتاب والأدباء بصفة التفرغ، غير أن الأمر يحتاج إلى وقفة تأمل لتقليب الموضوع من جهة إيجابياته وكذلك من زاوية سلبياته. كالبيعة المشروطة، يجب أن يكون التفرغ مشروطا، إذا كنا فعلا نطمح إلى الرقي والتطور والتجديد.
سؤال التفرغ لا يعني فقط الكتاب والأدباء بالمعنى الحصري للمجالين وما يحيلان عليه من حصر الكتابة في المجالات الأدبية، بل يعني كل العلوم الاجتماعية والإنسانية فيشمل كل أصناف الكتاب والدارسين والنقاد في مجالات الآداب وفروعها والتاريخ والآثار والفلسفة والأنتربولوجيا والسوسيولوجيا والجغرافيا البشرية والفنون الدرامية والموسيقية والتشكيلية وفروع العلوم السياسية والاقتصادية والقانونية، وما إلى ذلك مما يصب في خانة الإبداع بكل أشكاله وتلاوينه والدراسات والأبحاث بكل مجالاتها وفروعها والنقد ومدارسه والتأليف والتدوين والجمع والتحقيق والتصنيف.
التفرغ مدخل إلى تطوير البحث والإنتاج الثقافي والعلمي وإلى التنمية الشاملة، ومن ثمة لا يجب أن يكون منفذا إلى الكسل والتواكل، أو شهادة للتباهي. يجب أن يكون التفرغ مضبوطا بقواعد وقوانين صريحة وشفافة ونزيهة، ولأجل ذلك لابد من مؤسسة تشرف على الموضوع بقوانين وعقلية تختلف عما هو موجود اليوم بمعهدنا الوطني للبحث العلمي والتقني الذي يجهل الناس ما الذي يقوم به الباحثون المحسوبون عليه، وضمن أية شروط.
بعد تجاوز عقبة الشروط العلمية والأدبية والفكرية الواجب توفرها في كل طالب للاستفادة من التفرغ، يجب على المؤسسة المشرفة أن تلزم كل باحث أو مفكر أو مبدع متفرغ بشروط، فيها التحفيزي التشجيعي وفيها السالب لصفة التفرغ ضمن شروط واضحة وشفافة كذلك. ومن ذلك مثلا ليس عيبا أن نفرض على الكاتب المتفرغ إعداد تقارير دورية إجبارية عن أنشطته وإنتاجاته ومساهماته في تطوير البحث والإبداع والفكر والعلوم للوقوف على مشاركاته ومقارعاته الأدبية والعلمية والفكرية في الندوات والملتقيات وإصداراته الفردية والمشتركة ومنشوراته في الدوريات المتخصصة والمحكمة وكذا إشرافه على ورشات أو دورات تكوينية في مجال تخصصه. كل هذه التقارير الدورية والإصدارات والمنشورات والمشاركة في الندوات لابد وأن تخضع إلى تقييم علمي رصين تعتمده لجنة علمية أكاديمية عليا بالمعهد الوطني للبحث العلمي في لائحة التصنيف السنوي للباحثين المتفرغين بحيث تتم ترقية ومكافأة المؤهلين وتجميد وضعية المتأرجحين وإنذار المتراجعين في الأداء العلمي الذين لم يقدموا للبلاد وللعلم والفكر شيئا يذكر، قبل تجريدهم من صفة التفرغ ضمن شروط مضبوطة ونزيهة. ليس عيبا أن يتم سحب صفة التفرغ من كل من لا يقدم شيئا لا لنفسه ولا لغيره مهما علا شأنه في الفكر والثقافة والعلوم. هناك دول تحترم نفسها وتقدر العلم والفكر حق قدرهما، تقوم بنشر مثل هذه اللوائح سنويا ليطلع عليها العموم ولتكون في نفس الوقت حافزا وإنذارا للباحثين والعلماء والكتاب. هناك حالات طرد سجلت في مثل هذه الدول العالمة.
أسباب النزول في هذا التصور الذي قد يعتبره البعض مجحفا في حق نخبة المجتمع هو أننا نعرف بالإسم والصفة جمهورا عريضا من المثقفين والباحثين والأدباء والأساتذة الجامعيين تخصصوا في المشاركة بنفس العرض والموضوع والمضمون في عشرين ندوة وعلى مدى سنوات دون أن يكلفوا أنفسهم حتى تجديد مطبوع عرضهم. كما نعرف أيضا بأن المعهد الجامعي للبحث العلمي والتقني في المغرب لا أثر له في الساحة الوطنية وبالأحرى الساحة الدولية. كما نعلم علم اليقين أن هناك بهذا المعهد من لا أهلية له بالمرة لدخول مؤسسة من هذا الحجم. كما يعلم العالم بأسره، ولهذه الأسباب، أن المغرب يوجد في الدرجة الصفر في العلم والكتابة والنشر والتأليف والبحث والجمع والتحقيق، لولا التضحيات الجسام التي يقدمها كل باحث وأديب وكاتب ومبدع وناقد وفنان.
لأننا جميعا متفقون على مبدإ عدم الإفلات من العقاب في الحياة العامة، لابد أن نتقف أيضا على أن الكاتب المتفرغ لا يجب أن يفلت من "العقاب العلمي" بنفس قدر مطلبنا لتمتيعه بالمكافآت والتشجيع المادي والمعنوي، إن نحن فعلا أردنا أن نخرج بمغرب القرن الواحد والعشرين من هذا التخلف الذي نعيشه على مستويات عدة، على رأسها موت البحث العلمي، هذا البحث العلمي بمفهومه الواسع الذي يوجد في الدرك الأسفل من النار بسبب سياسات عمومية متردية منذ فجر الاستقلال إلى يومه وساعته.
تحية ثقافية
الجديدة : 03 أكتوبر 2013
أبوالقاسم الشـــبري
باحث في علوم الآثار والتراث
0 التعليقات: