السبت، 7 مارس 2015

الدكتور مصطفى الغرافي

نشرت من طرف : ABDOUHAKKI  |  في  11:46 ص

الدكتور مصطفى الغرافي باحث في البلاغة وتحليل الخطاب
خاص بالمجلة
ألف عبد الله كنون كتابه "النبوغ المغربي" من أجل إبراز الإسهام المغربي في الادب العربي .
المشهد الإبداعي المغربي لا يبعث على الارتياح هذه الأيام حيث ترتفع أصوات المبدعين بالتذمر والشكوى من واقع ثقافي تخيم عليه مظاهر التراجع ويمكن تلخيص أزمة الابداع في تزايد العرض وضعف المقروئية. في الغرب احتفاء بالمعرفة وتشجيع للباحثين لا نجد لهما أثرا في واقعنا الثقافي. هناك تقاليد قرائية تجعل الإنسان الأروبي يقبل على التثقيف الذاتي من خلال قراءة الكتب والمجلات في المقهى والحدائق العامة ومحطات القطار مما يجعل فعل القراءة طقسا يوميا. أما عندنا فهناك تبخيس للكتاب الإبداعي الذي لا يقبل عليه أحد. ولذلك نجد بعض الكتاب الذين خاضوا مغامرة طبع كتبهم على نفقتهم الخاصة يحتفظون بها في بيوتهم أو يوزعونها بأنفسهم على المكتبات والأكشاك لكي تتعرض للتلف بسبب أشعة الشمس الحارقة أو أمطار الخير.
بخصوص النقد يشهد المغرب ازدهارا نقديا ملحوظا ومشهودا. وقد أسهمت عوامل عديدة في تحقيق هذه النهضة النقدية أهمها انفتاح النقاد المغاربة على الثقافة الأوروبية في وقت مبكر الأمر الذي مكنهم من التعرف عن كثب على المناهج والاتجاهات التي كانت تمور بها الساحة النقدية الغربية. ينضاف إلى ذلك التحول الثقافي الذي عرفه المغرب منذ حصوله على الاستقلال إلى اليوم والمتمثل في تزايد عدد الجامعات مما أدى إلى ظهور أجيال جديدة من الباحثين والدارسين المتمرسين بقضايا النقد ومناهجه بعد التكوين الأكاديمي المتين الذي تلقوه على يد أساتذة أكفاء من جيل الرواد الذين سعوا إلى تطبيق المناهج الحديثة على نصوص عربية عديدة ومتنوعة بعدما أحاطوا بأسسها وتمثلوا أصولها. مما جعل جهود النقاد المغاربة تتبوأ مكانة رفيعة في المشهد النقدي العربي لما اتسمت به من جدة وطرافة. وقد شهد بهذا الازدهار النقدي في المغرب كثير من نقاد المشرق المتتبعين للحركة الثقافية في المغرب والمهتمين بما تعرفه من تطور وتحول في سياق الصيرورة التي تشهدها الثقافة العربية ككل. من هؤلاء جابر عصفور الذي خصص فصلا من كتابه "زمن الرواية" وسمه بـ "طفرة النقد المغربي" عرض فيه لمظاهر الازدهار النقدي في المغرب. وما من شك أن هذا الرأي يكشف أن إشعاع النقاد المغاربة وصل إلى عموم الوطن العربي. مما يعكس القيمة التجديدية للمنجز النقدي المغربي في نماذجه الناجحة والمشرقة.
في مجال السرد يشهد المغرب حضورا  لافتا لهذا الجنس الأدبي  بمختلف تجلياته وتنويعاته ولا أدل على ذلك من أن كثيرا من المثقفين الذين عرفوا بالكتابة في مجالات معرفية وإبداعية بعيدة عن حقل السرد مثل الفلسفة والتاريخ لم يستطيعوا مقاومة فتنة السرد وغواية الرواية فكتبوا عديدا من النصوص السردية التي لقيت حفاوة كبيرة على مستوى التلقي والتداول على نحو ما تجسد في الأعمال الروائية التي كتبها عبد الله العروي وابن سالم حميش وأحمد التوفيق. بل إن بعض الشعراء انضموا إلى لائحة المفتونين بجنس الرواية مثل محمد الأشعري وحسن نجمي ومما أسهم في ازدهار السرد الروائي في المغرب الحفاوة منقطعة النظير التي لقيتها النصوص الروائية في محافل القراءة والتلقي، فهناك مواكبة نقدية حثيثة لما يصدر من قصص وروايات. فمن السهل أن يلحظ المتتبع أن الإنتاج السردي شكل المجال المفضل للتطبيقات النقدية المغربية. ولذلك نجد النظرية الأدبية الجديدة متطورة في حقل السرد أكثر منها في مجال الشعر. لأن أغلب النقاد الجدد في المغرب يبحثون في السرد ويطورون أدوات اشتغالهم في هذا المجال أكثر مما مما هو حاصل في الشعر. وهناك مؤشرات عديدة تثبت أن الرواية المغربية استطاعت أن تشق لنفسها مسارا خاصا على أرض الإبداع المغربي والعربي مما أكسبها فرادتها النوعية وخصوصيتها التعبيرية يشهد على ذلك أنها استطاعت أن تخلق لها جمهورا حقيقيا يظهر بشكل واضح في متابعات القراء ودراسات النقاد.
فيما يخص المشهد الإعلامي المغربي يظهر من خلال استعراض أعمدة الرأي أن بعضها كان يحظى بمتابعة عالية وهو ما يظهر جليا من خلال نسبة المقروئية المرتفعة التي كان تحظى بها أعمدة الرأي التي كان يواظب على كتابتها كل من عبد الكريم غلاب "مع الشعب" و" عبد الرفيع الجواهري "نافذة" ومحمد الأشعري "عين العقل". لقد كانت كتاب هذه الأعمدة ينجحون في جذب انتباه القراء نظرا لما يطرحونه من قضايا لها ارتباط وثيق بحياة الناس ومشاغلهم. كما أن تمكن هؤلاء من وسائل الأداء جعلهم ينجحون في إقامة تواصل مؤثر وفعال مع قرائهم. فهؤلاء الثلاثة جاؤوا إلى الصحافة من بوابة الأدب وجميعهم يحترفون الكتابة الأدبية ويزاوجون بين الصحافة وممارسة جنس أدبي واحد أو أكثر. وهو ما مكنهم من اكتساب أدوات التعبير بطريقة تدفع القارئ إلى التفاعل مع المضامين الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تنطوي عليها كتاباتهم. يمكن أن يضاف لكل ذلك التزام كاتب الرأي تجاه قارئه مما يجعل القارئ يثق في آرائه ويتبع توجيهاته. أما في الوقت الراهن فقد تغيرت الأوضاع تماما خاصة بعد التطور الهائل الذي شهدته وسائط الاتصال الحديثة، مما نجم عنه ظهور الصحافة الالكترونية التي أصبحت تمثل منافسا قويا للصحافة المكتوبة. كما أنها أتاحت للأشخاص مساحة أكبر للتعبير عن الأفكار وتصريف القناعات من خلال التعليق المباشر على الأحداث والتفاعل معها. وربما يكون عمود رشيد نيني "شوف تشوف" حالة استثناء بين كتاب أعمدة الرأي في الصحافة المغربية حيث كان يحظى بنسبة متابعة عالية بالنظر الى القضايا السياسية والاجتماعية التي كان يثيرها ثم أسلوب الكتابة الذي يجمع بين اللغة المبسطة المطعمة بالدارجة وبين السخرية المحببة التي تفتح شهية قارئ الجرائد الذي هو "قارئ عام" في الأعم الأغلب. إن هجرة "الرأي" إلى المواقع الالكترونية (المدوّنات والمنتديات والمواقع الشخصية، بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي) يجعلنا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في مفهوم الكتابة الصحفية عموما والأدوات التي تعتمدها لتوصيل الفكرة والتعبير عن الرأي. لقد أصبح "الخبر" متاحا في المواقع الالكترونية وما نحتاجه هو "التحليل" و "التعليق" و"الرأي" بدل التركيز على "المعلومة". كما أن قارئ اليوم يفتقد الأسماء الإعلامية الكبيرة بمواقفها وقناعاتها وتاريخها النضالي مثل الصحفي المصري محمد حسنين هيكل مثلا الذي يملك القدرة على خلق "رأي عام" وتوجيهه. كما أن الإعلامي المغربي اليوم مطالب بتعميق معرفته من خلال الانفتاح على مختلف المجالات الفكرية والمعرفية خاصة تلك التي لها اتصال مباشر بأداء رسالته الإعلامية مثل النظريات والنظم السياسية وعلم الاجتماع ونظريات التواصل. وهو مدعو كذلك الى التمرس بطرائق التعبير وأشكال الصياغة لأن توصيل المضامين الإعلامية يتطلب إحاطة بوسائل الأداء اللغوي والأسلوبي؛ أي كل ما له علاقة بالصياغة التعبيرية المؤثرة. فما من شك أن امتلاك اللغة والكفاية التواصلية يمكنان الكاتب الصحفي من توصيل رأيه بطريقة ناجعة ومؤثرة. المضمون الجيد لا يكفي وحده بل ينبغي أن ينضاف إليه الأداء الجيد إذا أردنا أن نضمن لخطابنا الإعلامي الفعالية المطلوبة.
بخصوص علاقة الثقافة المغربية بالثقافة المشرقية هناك مقولة متواترة عبر العصور مؤداها "أهل المشرق أهل إبداع، وأهل المغرب أهل فقه وهوامش" مما يفيد أن الإبداع الحق مصدره المشرق، في حين ينحصر دور المغاربة في الشرح والتعليق ووضع الهوامش. مع الاعتراف بدروه المهم في تمويل المشرق بالفقهاء والمتصوفة. من الواضح أن هذه المقولة في منطوقها، ومفهومها تسعى إلى أن تجعل المغرب تابعا إبداعيا للمشرق. وهو ما تختزله المقولة الذائعة الصيت "بضاعتنا ردت إلينا" التي قالها الصاحب بن عباد عندما وصله كتاب"العقد الفريد" لابن عبد ربه. لقد كان يتوقع أن يجد فيه تعريفا بأدب المغاربة فوجده يضج بأدب المشارقة. وفي ذلك توكيد للرأي الذي يقرر أصحابه أن المغاربة كانوا على الدوام مفتونين بالمشرق، ومأخوذين بإنتاجات أعلامه. وقد ألف عبد الله كنون كتابه "النبوغ المغربي" من أجل إبراز الإسهام المغربي في الادب العربي. ومن المعاصرين نجد أحمد المجاطي يكتب رسالته الجامعية "ظاهرة الشعر الحديث" دون أن يشير إلى نصوص الشعراء المغاربة ودورهم في تطوير القصيدة العربية الحداثية. وهو أمر من شأنه أن يثير كثيرا من الإرباك والإحرج بالنسبة إلى المبدعين والنقاد المغاربة؛ كيف لشاعر وباحث مغربي يقدم رسالة إلى جامعة مغربية، ويناقشها أساتذة جامعيون دون أن يشير لا من قريب، ولا من بعيد إلى المتن الشعري المغربي. وفي دراسة لمحمد برادة تناول فيها ملامح وتجليات الحداثة في الرواية استشهد فيه بعديد من الروايات المشرقية ولم يشر إلى أي رواية مغربية وهو ما يثير أكثر من سؤال حول موقف الناقد، والمثقف المغربي من الكتابات الإبداعية التي ينتجها المغاربة. هل يتعلق الأمر بازدواجية فكرية وإبداعية تجعل المثقف المغربي يخاصم المشرق من جهة ليغازله من جهة ثانية؟ هل هو الافتتان المغربي بالمشرق؟ هل هو الجحود المغربي يتجسد في التنكر لكل من ينبثق من تربة محلية؟ أم أن الأمر لا يعدو في نهاية المطاف محاولة تجنب الإحراج الذي يمكن أن تسببه المناولة النقدية لأعمال لم تنجح في فرض نفسها ،وإقناع الدارس بقيمتها الأدبية والجمالية؟  بعيدا عن "عقدة المشرق" أقول إن الأمر بالفعل ظاهرة تحتاج الى مزيد تحقيق، وتدقيق من أجل الوقوف على أسبابها وتحديد ملابساتها وروز نتائجها.
 ومن حسن الحظ أن الأمر في مجال النقد يختلف نوعا ما عن حال الإبداع؛ فقد استطاع النقاد المغاربة أن يراكموا إنجازات مهمة شكلت إضافة نوعية إلى الساحة النقدية المغربية والعربية. وهو واقع عززته شهادة بعض النقاد المشارقة البارزين أمثال جابر عصفور الذي خصص مقالا من كتابه "زمن الرواية" كما سبقت الإشارة لما أسماه "طفرة النقد المغربي"، اعتبر فيه أن  النقد في المغرب شهد طفرة نوعية في السنوات الأخيرة على مستوى المرتكزات النظرية والأسس التحليلية. وقد استدعت هذه الطفرة إعادة النظر في مسألة المركز، والأطراف بالنظر إلى ما تبوأه الإنجاز الثقافي المغربي من مكانة كبيرة في مساعي الحداثة العربية؛.  فقد برز النقاد المغاربة بشكل لافت في مجال  النقد الأدبي، حيث حققوا إنجازا مفهوميا، وتحليليا مهما أهلهم لأن يضحوا ريادات فكرية وثقافية تضيء المشهد النقدي المغربي والعربي . يشهد على ذلك عشرات الأسماء والرموز التي راكمت تجربة نقدية وازنة جعلت منها مرجعا في الدرسات الأدبية والنقدية؛ فقد انفتح النقاد المغاربة مبكرا على إنجازات النقد الغربي وتفاعلوا بشكل بناء مع منجزاته في مجال نظرية الأدب ونقد النصوص والخطابات خاصة الدراسات المكتوبة باللغة الفرنسية أو المنقولة إليها. وقد برزت أسماء عديد من المغاربة الذين شكلت أبحاثهم إضافات نوعية أغنت الساحة النقدية المغربية والعربية.
يستدعي النجاح الذي حققه الدارسون المغاربة في مجال الدراسات النقدية إلى الذهن مسألة المنزع العقلي الذي ميز المثقفين المغاربة بشكل عام على نحو ما ذهبت إلى ذلك أطروحة الجابري الذي قرر وجود قطيعة فكرية على مستوى الفكر الفلسفي؛ مدرسة مغربية عقلانية مثلها ابن رشد وابن باجة وابن طفيل وابن حزم جسدت قطيعة مع الفلسفة المشرقية العرفانية، كما تجسدت في كتب ومقولات الشيخ الرئيس ابن سينا. وهي القراءة التي بسطها في كتابه الماتع "نحن والتراث" الذي يمكن اعتباره المدخل الحقيقي لمشروع عمره "نقد العقل العربي" الذي بسطه في كتاب من أربعة أجزاء. وبالرغم من القدرة الكبيرة التي تميزت بها أعمال الجابري في ما يخص عرض الرأي، والاستدلال عليه فإني أرى أن تقسيمه إلى مغرب عقلاني ومشرق عرفاني يحتاج إلى مزيد تدقيق. فلدى المغاربة إبداع لا يقل عن إبداع المشارقة، ولكنه يحتاج إلى من ينبري لاكتشافه والكشف عنه.




التسميات :

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:


اخبار الأدب والثقافة

الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحريرــ الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحرير back to top